بعيداً عن الديكتاتوريات والإمارات والديمقراطيات الحقيقية، فإن هناك أمراضاً تصيب ما يسمى الديمقراطيات في عالمنا الثالث مما يحولها إلى ما هو أسوأ وأكثر لعنة من الديكتاتوريات. ولعل جمهورية الموز خاصتنا من الدول التي تعاني من هذه الأمراض وعلى مختلف المستويات. هذه الحالة السرطانية تكاد لا تكون حكراً على منصب أو طائفة أو حزب بل هي منتشرة في كامل جسم الدولة من الرأس إلى القدمين.
وللدلالة على ما نقول نأخذ عدة أمثال معروفة لدى المجتمع.
فما رأيكم مثلاً برجل يحصل على مبلغ من المال نتيجة عمل أو شيء آخر (والله أعلم!) في إحدى المغتربات فيقرر العودة للعمل في وطنه.
لا المصنع ولا المتجر ولا العقارات هي ما ينظر إليه هؤلاء، فكلها في نظرهم أعمال غير مضمونة نظراً لتقلبات الأوضاع. لذلك فإن أول ما يفكر فيه هؤلاء هو الدولة. لأنه بات واضحاً أن العالم المستكبر سيحافظ على كيان دولة مهما كان الثمن ومن هنا كانت ضمانة إستقرار البزنس بالدولة.
تبدأ رحلة البزنس بالنظر إلى جسم الدولة، كل الجسم. وكل بحسب ثروته يقرر من أين سيبدأ. يمكن للقارئ هنا أن يتخيل مروحة الخيارات المتاحة. من منصب مختار إلى عضو بلدي والأعلى فالأعلى.
بعد إختيار الموقع تأتي مرحلة اختيار الجهة الحاضنة. وهي ما يعرف بالأحزاب أو الجمعيات أو التكتلات الطائفية أو المذهبية وما إلى ذلك. هذه المرحلة مهمة لأن لهذه الجهات ما يعرف بالمحادل والتي اذا ما كسبت ثقتها حملتك يوم المد الإنتخابي ووضعتك في أعلى الرف رغماً عن أنف الجميع.
بعد ذلك تأتي مرحلة الإغراء للجهة الحاضنة. وذلك يكون عادة عن طريق بناء مشروع تكون عادة الإفادة المباشرة منه للجهة التي تريد خوض البزنس تحت غطائها. فلو أردت مثلا اللعب في ملعب العلمانيين فما لك إلا أن تبادر إلى إنشاء نادٍ رياضي أو ثقافي تضعه في تصرف الجهة المستهدفة. أو لو أردت مثلا أن تستثمر مع ذوي الدين فتبادر إلى إنشاء مسجد أو خلوة أو حسينية في منطقة نفوذ هذه الجهة دون أن تنسى جعل صرحك مميزاً ودون أن تنسى إهداء مفتاح الصرح الجديد إلى ممثل عن زعيم المجموعة التي ستتبنى إستثمارك.
بعد ذلك تأتي مرحلة الإنتخابات والتي تحرك فيها التكتلات ماكيناتها لتحديد الأكفأ للمناصب. في هذه المرحلة يكون ‘المتبرع’ الكريم كالعلم في الصحراء والذي لا بد من رد ‘الجميل’ له لعله يقبل بالمنصب!
تنتهي الإنتخابات قبل أن تبدأ لتضع المحادل ما اختارته في المواقع المطلوبة.
هذه المرحلة هي التي يبدأ فيها جني الأرباح بالنسبة للمستثمر. بين معاملات وصفقات وسمسرات وتجارة عقارات وسفرات وتمريقات فإن المستثمر يجني ضعف ما أنفق في فترة وجيزة.
للمحافظة على على بزنس المنصب لا بد من المحافظة على رضى الجهة الحاضنة من خلال الحفلات ىالعشاوات والغداوات دون ترك فرصة إلقاء الكلمات المادحة بحمد الجهة وقادتها مع الإصرار على أخذ الصور المرتاحة الباسمة.
أما المعلومة الأهم في بزنس المنصب فهي عدم الإكتراث بالناس ومطالبهم. ولكي يرتاح صاحب المنصب من المطالبات فلا بأس من أن تنتشر عنه مقولة أنه ممن ‘لا يرف له جفن’ أمام مطالب الناس وحاجاتهم.
وللتلخيص فإن المقتدر الذي ألم بهذه الأسرار يمكن له أن يتربع على عرش المنصب لدورات ودورات وأن يجني من المكاسب ما لايمكن له أن يجنيه من أي عمل آخر.
لما كان المستثمر هو الرابح الأكبر من هذه التجارة فإن الجهة الحاضنة تكاد تساوي أو تزيد على العامة في الخسارة من هذارالإستثمار العفن.
خسارة الناس سهلة الإحصاء فهم لا يحصلون على ما يفترض بالموقع أن يؤمنه لهم من مصالح مستحقة ومن حياة كريمة مستوجبة.
أما الجهة الحاضنة فتحصد من المساوئ أجلها. ومنها تزايد نقمة الناس عليها مع الوقت. عامة الناس لا تميز الرجل من المحدلة التي حكمته برقابهم لذلك فإن النقمة والكراهية تكبر مع الأيام لتأكل من مصداقية الجهة ورصيدها بين الناس.
لعل هذه من أكبر بلاءات مجتمعاتنا… فهل يستيقظ أصحاب الشأن ويستعيضون عن بعض التجار الوصوليين بأناس أصيلين قادرين على خدمة الناس والجهات الداعمة بما يرضي الله!؟