م ق ا و م ة ومعركة اللغة

عماد مرمل –

إذا كانت كل أسلحة اللغة العربية قد زُجّت في المعركة على صيغة المقاومة في البيان الوزاري، فإن دخان المصطلحات المحترقة خلال المفاوضات لا يغطي بطبيعة الحال جوهر الموضوع، وهو ان الخلاف لم يكن على كلمات بل على خيارات استراتيجية، تتعلق بهوية لبنان وموقعه.

ولعل طبيعة التعديلات التي طلبت قوى «14آذار» إدخالها على صيغة الرئيس نبيه بري تعطي إشارة واضحة الى وجود «عقلين» في محاكاة المخاطر الاسرائيلية وسبل مواجهتها.

وعندما التقى بري رئيس الجمهورية ميشال سليمان على هامش حفل الغداء الذي أقامه على شرف الرئيس الفنلندي، قال له بصراحة: «فخامة الرئيس.. أنا أحاول ان أوهم نفسي ان المسألة هي مسألة كلمات، وتفسيرات لغوية، لكن لا أنا أصدق ولا أنت تصدق ان هذه هي الحقيقة، ومع ذلك سأستمر في السعي للتوافق».

بدا بري على قناعة بأن أي تسوية محتملة حول البيان الوزاري لن تنضج قبيل انتهاء المهرجان الخطابي لقوى «14 آذار» يوم الجمعة الماضي، بالنظر الى ما تفرضه مخاطبة الجمهور في هذه المناسبة من سقوف مرتفعة.

وفي الانتظار، أراد بري ان يبلغ الرئيس سعد الحريري، على طريقته، انه «يفهم عليه»، فطلب من مستشاره الاعلامي علي حمدان ان يبعث عبر هاتفه الخلوي رسالة نصية الى الحريري، من خلال هاتف مدير مكتبه نادر، تتضمن عبارة شهيرة لأحد الفلاسفة الاوروبيين: «ما هو حق قبل البرينيه، باطل بعد البرينيه.» (جبال البرينيه).

وعطفا على هذا القول، اضاف بري مخاطبا الحريري بواسطة الـ«sms»: «كيف إذا كان الامر قبل يوم 14 آذار؟ بعده، أعانك الله، البيان الوزاري».

كان بري قد كتب بخط يده مشروع صيغة لبند المقاومة على ورقة من الحجم الصغير، ثم راح مع تقدم المفاوضات يضع خطا أحمر تحت الكلمات التي طلبت «14 آذار» تعديلها. عارض هذا الفريق ان تكون المقاومة «التعبير الصادق والطبيعي للشعب اللبناني»، ودعا الى استبدال مصطلح «سلامة لبنان» بـ«سلامة أبنائه»، واعتبر انه لا توجد ضرورة للإشارة الى «الأطماع الاسرائيلية» والى «حق لبنان في مياهه ونفطه».

وحاولت «14 آذار» عبثا ان تحصر صلاحية المقاومة والتحرير بـ«الحكومة وأبنائها» تارة وبـ«الدولة وأبنائها» طورا، فعُطلت هذه المحاولة لأن تعبير «الأبناء» قد يفسر على اساس انه مرادف لعناصر المؤسسات الامنية تحديدا، ثم سعت قوى «14 آذار» الى ربط حق المقاومة بـ«المواطنين» حصرا، وهو الامر الذي ارتاب فيه بعض المفاوضين في فريق «8 آذار»، لانه قد يُفهم منه ان مواطني هذه البلدة او تلك هم المعنيون فقط بالدفاع عن بلدتهم في مواجهة أي اعتداء اسرائيلي، فأضيفت الى جانب «المواطنين» كلمة «اللبنانيين».

سايرت «8 آذار» في الشكل وربحت في المضمون، حتى بات البعض من صقور «14 آذار» يترحم على معادلة «الجيش والشعب والمقاومة»، وإن كان الرئيس الحريري يعتبر ان هذه المعادلة انتهت الى غير رجعة.

ولئن كانت التسوية اللغوية ــ السياسية حول بند المقاومة في البيان الوزاري قد خرجت من قاعة مجلس الوزراء في قصر بعبدا، إلا ان قوة الدفع الحقيقية التي جعلت بعض قيادات «14 آذار» تتجاوب مع التسوية جاءت من خارج القصر، بل من خارج الحدود، بعدما بدا ان هناك قرارا دوليا حاسما بضرورة اكتمال شرعية الحكومة، من خلال إنجاز بيانها الوزاري وحصولها على ثقة مجلس النواب، ربطا برغبة المجتمع الدولي في الحفاظ على حد أدنى من التماسك والاستقرار في لبنان، بعدما تحول الى «البيئة الحاضنة» الأبرز للنازحين السوريين.

هذا المناخ الدولي عكسه الممثل الشخصي للأمين العام للامم المتحدة في بيروت ديريك بلامبلي الذي طلب على عجل، في عز التفاوض حول البيان الوزاري، لقاء بري. حاول بلامبلي ان يخفف من وطأة طلبات «14 آذار» وان يناقش إمكان التخلي عن «ال» التعريف في المقاومة، وإناطة حق التحرير بـ«الدولة وابنائها»، لافتا انتباه محدثه الى أن الامور تكاد تصل الى نهايتها، والعالم ينتظر، والحكومة باقية أصلا لفترة زمنية قصيرة.. فأتاه الرد الحاسم من رئيس المجلس برفض التنازل عن الثوابت المتعلقة بدور المقاومة.

قبل ان ينتهي اللقاء الذي دام 20 دقيقة، رنّ جرس الهاتف في مكتب رئيس المجلس. كان وزير المال علي حسن خليل على الخط، ناقلا الى بري آخر الطروحات المقترحة من «14 آذار» لتنظيم العلاقة بين المقاومة والدولة. رفض بري بنبرة حازمة، على مسمع ضيفه، اي محاولة للالتفاف على ثوابت الصيغة التي قدمها. في تلك اللحظة، أدرك بلامبلي ان هامش المرونة عند رئيس المجلس ضاق الى اقصى الحدود ولم يعد ممكنا طلب المزيد منه.

استأذن بلامبلي للمغادرة، قائلا لرئيس المجلس: «سأبلغ الصحافيين انني بحثت معك في شؤون تتصل بمؤتمر باريس المتعلق بالنازحين السوريين». لاحقا، تواصل المسؤول الدولي مع عدد من شخصيات «14 آذار»، ناصحا بالمضي في صيغة بري والاكتفاء بما تحقق من تعديلات عليها.

على خط آخر، فُتحت قناة أخرى بين قيادات في «14 آذار» والسفير الاميركي في بيروت ديفيد هيل الذي «عُثر» عليه في ألمانيا بعد تقفي اثره، وكانت النصيحة أيضا بتسهيل ولادة البيان الوزاري.

وبند المقاومة في البيان كان حاضرا كذلك خلال لقاء بين رئيس المجلس وأحد السفراء الغربيين المعتمدين في بيروت. أكد بري لضيفه ان «المقاومة ليست مختصرة بحزب الله، بل مرت في مراحل عدة، وسبق ان شارك فيها شيوعيون وبعثيون وقوميون سوريون، وحركة أمل لوحدها قدمت ألف شهيد».

وأضاف بري مخاطبا السفير الغربي: «إذا كانت لديكم حساسيات او حسابات مرتبطة بموقفكم من حزب الله ومشاركته في القتال في سوريا، فهذا شأنكم، أما المقاومة بحد ذاتها فهي تخص شريحة واسعة من الشعب اللبناني.. وإن يكن حزب الله قد طوّرها في المرحلة التي تحمل بصماته».

المصدر: السفير

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …