«جالية لبنانية» في فلسطين!
قليلون هم الجنوبيون الذين عايشوا محمود بزي الملقّب بـ «محمود أنيسة»، ويعرفون أنّه لم يعد مهاجراً في «بلاد السند والهند»، وإنما حطّ رحاله في لبنان بعد أن اعتقلته المخابرات الأميركية، حيث كان يقيم في ديربورن ـ ولاية ميشيغان. فقد علمت السلطات الأميركيّة ـ متأخرة ـ أنّ بزي دخل إلى بلادها قبل 30 عاماً بجواز سفر مزوّر، لتقوم باعتقاله لنحو سبعة أشهر قبل أن ترحّله إلى بلده الأم في نهاية العام الماضي.
ولكن ليست قصّة جواز السفر واستخدامه ليهرب به من لبنان خلسةً عبر مطار تل أبيب، هي ما جعلت «محمود أنيسة» يمثل أمام هيئة المحكمة العسكريّة الدائمة بعد توقيفه قبل ستة أشهر، بل إنّ التهم الموجّهة إلى ابن الـ72 عاماً كثيرة، وأبرزها أنّه عمل في السبعينيات من القرن الماضي كمسؤول أمني ومدني عن منطقتي كونين وعيناثا بتكليف من «ميليشيا سعد حداد» المتعاملة مع العدو الإسرائيلي.
ويبدو جلياً أنّه حتى بعد مرور 30 عاماً على تاريخ العمالة، فإنه يقول جهاراً وأمام «العسكريّة»: «أنا تعاملتُ مع الإسرائيليين بإرادتي»، معلقاً على أنه كان مسؤولاً فاعلاً في «الميليشيا» بالقول: «اسمي كبير والمزرعة خربانة».
وبعد أن ترك بزي «الميليشيا» تدبّر لنفسه عملاً كسائق سيارة أجرة (سيارته المرسيدس البيضاء التي يعرفها قاطنو المناطق الحدودية والمحتلة آنذاك) ليعمل على نقل عدد من الأشخاص من لبنان إلى فلسطين المحتلة، وتحديداً إلى المطار أو إلى السفارات الأجنبيّة لتخليص معاملات الهجرة.
في حين أن التّهمة التي حرّكت قصته هي قضيّة قتل عناصر من الوحدة الإيرلنديّة التي كانت تعمل ضمن قوات الطوارئ الدولية في الجنوب. وتقول الرواية، التي يؤكّد بزي على جزء منها (عملية مقتل شقيقه)، إنّ الإسرائيليين كانوا منزعجين من تمركز «قوات الطوارئ» في بلدة الطيري التي تعيق عمليّة حركتهم ومرورهم. وهذا ما دفعهم بين العامين 1979 و1980 إلى تحريض مجموعة ما كان يُسمّى بـ «جيش لبنان الجنوبي» إلى تنظيم مظاهرة باتجاه الطيري. وبعد أن شعرت الوحدة الإيرلنديّة بخطورة هذه المظاهرة وإمكانيّة أن يطلق المتظاهرون النار باتجاهها، قامت بإطلاق النار لتفريقهم، فأصيب أكثر من شخص في رجله وقتل واحد منهم إثر إصابته في رقبته، وهو مسعود بزي (شقيق محمود).
ووفق الرواية نفسها، غضب محمود لمقتل شقيقه العشريني ما دفعه إلى اختطاف ثلاثة ضباط من الوحدة الايرلندية من قرب معبر بيت ياحون واقتادهم الى «مهنية بنت جبيل الرسمية» التي كانت قيد الإنشاء. ويروي عدد من أهالي المنطقة أن محمود دعا عدداً منهم إلى زيارة «المهنيّة»، حيث كان يعذّب العناصر عبر ضربهم بالحجر على أياديهم، قبل أن يعمد إلى قتلهم بسلاح «كلاشينكوف».
وكادت جريمة القتل هذه أن تُنسى، إذ إن المعنيين الإيرلنديين لم يتحرّكوا جدياً إلا حتى العام 1998، حينما تمّ اقتياد محمود بزي إلى مقرّ السفارة اللبنانيّة في أميركا، حيث تمّ التحقيق معه بحضور أحد الضباط الإيرلنديين (شاهد على الحادثة)، ثم تركه لعدم ثبوت أدلّة كافية بحقّه.
ولكن لم تدفن قضيّة الإيرلنديين الثلاثة نهائياً، بل عاد ملفّهم ليفتح من جديد بعد إلقاء القبض على أحد مجموعة «ميليشيا حداد» جورج كمال مخول الذي أنكر علاقته بعملية القتل، مؤكداً أنه شاهد بزي في «المهنيّة» يحمل «كلاشينكوف» والعناصر الثلاثة قتلى على الأرض. ولاحقاً، صدرت مذكرة توقيف غيابيّة بحق بزي قبل أن يطلب له قاضي التحقيق العسكري عقوبة الإعدام.
ينفي الرجل المعروف في المناطق الحدوديّة بتنقله الدائم ببزته العسكريّة حينما كان عنصراً مسؤولاً في «ميليشيا حداد»، وبرفقته العميل ـ الجلاد الأشهر في المنطقة عبد النبي بزي الملقّب بـ «الجلبوط»، أن يكون هو مَن قتل الجنود الإيرلنديين. للعميل الذي تزوّج ست نساء وله 25 ابناً وابنة، رواية مختلفة، إذ يشير رداً على سؤال رئيس المحكمة العميد الركن الطيار خليل ابراهيم أن «الإسرائيليين كانوا يريدون التخلّص من الوحدة المتمركزة عند الطيري فنصبوا لها كميناً عند معبر بيت ياحون وأردوهم قتلى، ثم عمدوا إلى إلصاق التهمة بي لتضيع الطاسة».
ويضيف «محمود أنيسة» الذي يرفع صوته واضعاً يده على القرآن الموضوع على منصة المحكمة ليقسم بالله بأنّه بريء من دمّ الإيرلنديين، «أنا كنت حينها في حسينيّة بنت جبيل أتقبل التعازي بوفاة شقيقي، عندما استدعاني الإسرائيليون إلى ثكنة بنت جبيل حيث كان هناك ضباط المخابرات الإسرائيلية ومعهم سعد حداد وعقل هاشم. وطلبوا مني حينها أن أعلن أنني قتلت الإيرلنديين رداً على مقتل أخي، وهدّدوني بالقتل إذا لم أفعل، تماماً كما أجبروني على عقد مؤتمر صحافي داخل الثكنة لأعلن مسؤوليتي عن هذه العمليّة».
ويشير بزي إلى أنّه بعد هذه الحادثة قرّر الخروج من «الميليشيا» وعمل على سيارته كسائق إجرة، برضى الإسرائيليين، قبل أن يعمد إلى استلام جواز سفر مزوّر من شخص من ثم هرب من مطار تل أبيب «لأنني لو بقيت كان الإسرائيليون قد قتلوني». ويعتقد «محمود أنيسة» أن الإسرائيليين قتلوا كلّ الأسماء الكبيرة الذين تعاملوا معهم، مشيراً إلى أنّه «متأكد مئة بالمئة أن الإسرائيليين هم مَن قتلوا الجلبوط وليس حزب الله»!
وبعد الاستماع إلى إفادة الموقوف، قرّر العميد ابراهيم تأجيل الجلستين المخصصتين لبزي إلى 25 تشرين الثاني المقبل للاستماع إلى إفادة شاهدين لبنانيين هما صبحي بزي وجورج كمال مخول، بالإضافة إلى ضابطين إيرلنديين وصحافي إيرلندي ثالث كانوا شهوداً على الحادثة وأبدوا رغبتهم بالمجيء إلى لبنان للإدلاء بإفادتهم.
في حين علمت «السفير» أن وكيل بزي المحامي صليبا الحاج سيعمد في الجلسة المقبلة إلى الإدلاء بدفع شكلي يتعلّق بسقوط دعوى الحق العام بمرور الزمن، لكون الدعوى لم تتحرّك بسبب «إهمال الإيرلنديين لها لأكثر من 20 عاماً».
المصدر: السفير
الوسومبنت جبيل
شاهد أيضاً
في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)
قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …