واصف عواضة
مرة أخرى يُطرح علينا السؤال بإلحاح شديد: لماذا المقاومة؟.. ومرة أخرى لا نجد أنفسنا محرجين أو مربكين في الإجابة عن هذا السؤال، حسبنا أننا الجيل الذي عاش زمن ما قبل المقاومة وما بعدها، ولم نقرأ عنها في كتب الأولين والآخرين. وسواء ورد ذكرها في البيان الوزاري للحكومة الجديدة أم لم يرد، فذلك لن ينقص أو يزيد من مقامها ودورها شيئا.
من زمان كانت أرضنا ساحة، وسماؤنا مستباحة، ومياهنا مباحة. لطالما أخبرنا آباؤنا وأجدادنا حكايات موجعة عن جارتنا فلسطين التي سقطت تحت سنابك خيل اليهود، وقرقعة اللجم العربية، والطبول الفارغة للجيوش والأنظمة «العالية الهمة».
كانت هزيمة حزيران في العام 67 أكبر من أن نتحمل قسوتها وذلها ومهانتها. لم يقو جسمنا اللين ولا عقولنا الطرية، على رؤية جمال عبد الناصر مكسور الخاطر مهيض الجناح، وهو يعلن انسحابه من الساح، حاملا على كتفيه مسؤولية الهزيمة. خرجنا الى الشوارع مع من خرج، وقلنا «لا». وكانت أول «لا» في وجه اليأس والإحباط والمهانة.
كانت أصداء القذائف غريبة على مسامعنا في ذلك الزمن البعيد. صارت حياتنا على الحدود مرة ومريرة. شاهدنا الفدائيين الفلسطينيين بين ظهرانينا، يحملون السلاح ويقطعون المسافات ويُقلقون عدونا ومُقلق راحتنا. فرحنا بقدر ما توجسنا. لم نكن أصحاب الخيار ولا أهل القرار. لكننا سلكنا الطريق الصعب مع الأشقاء الهاربين من جحيم القهر. حملنا البنادق مع من حملوا، وعبرنا الفيافي في الليالي، وسكنّا المغاور في النهارات. وكان الاجتياح الأول والثاني، فتجرّعنا ذل الاحتلال عقدين وسنتين من الزمن. ومن رحم المعاناة وُلدت المقاومة. بدأت صغيرة وكبرت. كان يشتد ساعدها كلما اشتدت على أهلها المحن والصعاب. آمنوا بها. أعطوها كل ما ملكت أيمانهم، شباباً وشيباً ومالاً ومعنويات. حملوا معها الهم، وتقاسموا الرغيف، وتوزعوا الصعاب. صار الغرام بينهم وبينها، أين منه لواعج العشاق. سهروا الليالي على عملياتها ومآثرها. تعلقوا بأهدابها تعلق الأطفال بأثداء الأمهات. سكروا وأُطربوا على خطاباتها. بكوا وأبكوا وهم يستمعون الى سيدها وهو ينعى ابنه الشهيد قائلا: «إنني أشكر الله وأحمده على عظيم نعمه، أن تطلّع الى عائلتي فاختار منها شهيدا».. وكان الخامس والعشرون من أيار عام 2000 يوماً يشبه يوم فتح مكة في نتائجه وأدبياته ونموذجه، حيث أعادت المقاومة أمثولة الرسول حين نادى المنادي: «من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن».
اليوم وبعد أربعة عشر عاما على التحرير، نادرا ما ترى جنوبيا خارج مسقط رأسه مع نهاية كل أسبوع. تعمر القرى والمدن بالناس الطيبين الذين زرعوا بيوتهم على الشريط الشائك. يهنأون بالأمن والاستقرار بعيدا عن الذل والمهانة التي ألفوها طويلا. فهل يعتقدن أحد أن هذا الأمن والاستقرار هما منّة اسرائيلية أو احترام لقرارات وقوات دولية؟ أم أنه المعادلة التي فرضتها هذه المقاومة، ليس فقط على حدود لبنان، بل على مساحة البلد كله؟
وبعد ذلك كله يدور نقاش عقيم في لجنة البيان الوزاري حول الصيغة التي يفترض أن يرد فيها ذكر المقاومة.. نعم مجرد ذكرها، وكأن المطلوب أن تُترك أرضنا وماؤنا وسماؤنا مرة أخرى عرضة للتجارب. وفي النتيجة، متى كانت المقاومات الشعبية بحاجة الى تصاريح وأذونات رسمية؟ وهل كانت أرضنا لتتحرر لو انتظرت المقاومة اتفاق اللبنانيين على البيان الوزاري؟
في الخلاصة يا سادة يا كرام: اعذرونا!
المصدر : السفير