فيما تتواتر أخبار الموافقة السعودية الحريرية على حكومة يشارك فيها حزب الله، ويملك فيها تحالف عون ـــ 8 آذار ثلثاً ضامناً، يكفي أن نتذكر واقعتين اثنتين: أولاً، بيان كتلة المستقبل النيابية قبل 72 ساعة فقط، المغاير لهذا الاتجاه، والرافض له تماماً. وثانياً هجوم طهران القاسي على الرياض في اليوم نفسه، وبلسان الجناح الإيراني الأكثر اعتدالاً والأقرب إلى أهل القصور السعودية. واقعتان لم يجف حبرهما بعد، ومناقضتان لمناخات ما تبدل وتطور.
وهو ما يكفي للاستنتاج بأن تلك الموافقة السعودية الحريرية على حكومة كهذه، تمثل الدليل الحاسم على تنازل كبير من طرف الموافقين، وعلى مكسب سياسي واضح لتحالف عون – 8 آذار. فما الذي يمكن أن يفسر معادلة جديدة كهذه؟ احتمالان اثنان يبرزان في هذا السياق:
أولاً، أن تكون الإيجابية السعودية في الموضوع الحكومي اللبناني، إذا تأكدت صحتها المبدئية، مجرد مناورة. بأي معنى ولأي أهداف؟ أن يكون السعوديون وممثلوهم اللبنانيون قد أحرجوا على أكثر من مستوى. لبنانياً حيال ميشال سليمان ومعه، وخصوصاً بعد تجاوب خصومهم، وبالتالي إظهارهم في موقع المعرقل. ودولياً، في حال صحة ما تردد عن ضغوط أميركية على الرياض لإظهار إيجابية لبنانية ما، تمنع تفجير الوضع في بيروت، الأمر الذي تحرص عليه واشنطن بوضوح معلن. وأن يكون السعوديون المحرجون لتلك الأسباب، قد عمدوا إلى تنفيذ خطة تكتية، تقضي بمجرد ربح الوقت. بحيث يعلنون موافقتهم المبدئية على الحكومة الجامعة. ومن ثم يتركون لشيطان التفاصيل تفخيخها تدريجياً. بحيث تسقط الفكرة على الطريق، وينسف مبدأها لاحقاً وتلقائياً، من دون أن يضطر السعوديون إلى تحمل مسؤولية ذلك. فالاتفاق على حكومة كهذه يستلزم نقاطاً كثيرة بعد. بدءاً بالأسماء وكيفية ترشيحها واختيارها، مروراً بالحقائب وتوزيعها، انتهاء بالبيان الوزاري. وحدها قصة المداورة المطروحة كحل للحقائب، يمكن أن تستنفد أسابيع من التفاوض، بحسب رأي أحد الأقطاب المعنيين. هل هي مداورة بين القوى السياسية أم بين الطوائف، أم بين المذاهب؟ ثم هل هي مداورة شاملة لكل الحقائب أم جزئية وانتقائية؟ ثالثاً، وفي حال شموليتها، هل ستستند إلى مبدأ سلة لتصنيف مختلف الحقائب وتوزيعها كوتا وفق «بلوكات» التصنيف، كما حصل مع سلة تعيينات الفئة الأولى سنة 1991، أم تكون عشوائية على قاعدة التراضي؟ ورابعاً وأخيراً، هل تكون مداورة لمرة واحدة استثنائية، أم تمثل عرفاً دائماً يجري الاتفاق على اعتماده وتطبيقه عند تأليف كل حكومة؟ هذه عينة من الأسئلة المطروحة حول جزئية واحدة من عملية تأليف الحكومة المطروحة. وهو ما لم يجرِ البحث فيه جدياً وبالتفصيل، برغم كل الكلام المغاير، كما يؤكد أحد المعنيين. فكيف إذا أضيفت إلى الاتفاق الحكومي المذكور، ملفات يفترض أن تمثل صفقة متكاملة مع أي حكومة جديدة في هذا التوقيت بالذات: ماذا عن الاستحقاق الرئاسي المفترض بهذه الحكومة أن ترعاه بعد أسابيع قليلة من ولادتها؟ وماذا عن قانون الانتخاب الذي نسي الناس ونسينا أن له استحقاقا آخر بعد تسلم الرئيس الجديد بأقل من ستة أشهر، مع انتهاء التمديد المسخ للمجلس النيابي الحالي؟ هل مشروع الحكومة المقبلة حلقة من تلك السلسلة، على قاعدة الرزمة الواحدة للتسوية؟ أم أنه استلحاق غب الطلب لإدارة فراغ رئاسي بات مؤكداً؟
كل ذلك لم يبحث، يؤكد أحد الأقطاب، ولم يحسم ولم يبت. وهو ما يفتح الباب أمام احتمال المناورة السعودية: يُكتفى الآن بمجرد إعلان الموافقة المبدئية. بعدها ينطلق التفاوض على كل النقاط المذكورة سابقاً. بما يفرض على ميشال سليمان وتمام سلام ــ أو يسمح لهما ــ بسحب فكرة حكومة الموظفين. بعدها يستمر البحث حول تفاصيل «الثمانيتين المتسعتين»، بما يكفي لإضاعة شهر كامل من الوقت القاتل. ليجري إجهاض الفكرة لاحقاً، بلغم من تلك الألغام المعلقة والمؤجلة والكثيرة، في مدى زمني حدوده منتصف شباط. فجأة حينها تتعثر الأمور وتتعرقل المفاوضات وتعود إلى النقطة الصفر وإلى خط ما قبل الموافقة الحالية. فيعلن بعدها سلميان وسلام أنهما وقد استنفدا كل احتمالات التوافق، يجدان نفسيهما مضطرين إلى إعلان حكومة الموظفين. أي حكومة المطلب السعودي الحريري الأول. بعدها تمضي الأيام الثلاثون الفاصلة عن مثول تلك الحكومة أمام المجلس النيابي، بحيث يأتي 25 آذار، ويصير المجلس هيئة ناخبة. فتصير حكومة الموظفين بحكم المستقيلة، من دون أن يكون لتحالف عون ــ 8 آذار ـــ جنبلاط إذذاك، القدرة على إجراء استشارات تكليف وتأليف جديدة، والإتيان بحكومة أخرى. فيربح سليمان ورقة احتمال الفوضى الممهدة لفكرة التمديد له، ويربح الفريق السعودي الحريري مبدأ الذهاب إلى الفراغ بحكومة تصريف أعمال موالية له لا مناوئة…
يبقى الاحتمال الثاني لتفسير التنازل السعودي، وهو أن تكون سنة التغيير في الرياض قد بدأت فعلاً. وأن يكون أهل القصور هناك قد أفاقوا أخيراً ولو متأخرين على تبدل كل الأمور من حولهم: من مسقط إلى الدوحة، ومن صنعاء وخاصرة صعدة إلى بغداد وخاصرة الفلوجة، وصولاً إلى إسطنبول ودمشق وانتهاءً ببيروت. أي أن يكون شيء كبير قد تبدل في السعودية. ليس أقل من أن يكون بندر قد طار، أو هو يستعد للطيران… احتمالان لا ثالث لهما لتفسير «المكرمة السعودية الحكومية». فالمؤكد على الأقل، أنه من دون أي منهما، لا حكومة عندنا ولا من يحكمون.
جان عزيز