قد أقبل إليكم شهر الرحمن بالبركة

سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 29 شعبان 1435هـ الموافق 27 حزيران 2014م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يقول الله سبحانه في كتابه المجيد في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ[البقرة: 185].
ونحن نقف اليوم مع آخر يوم جمعة من شهر شعبان، لنستقبل شهر رمضان المبارك، شهر التَّوبة والرَّحمةِ والمَغفرةِ والعِتق من النَّار.
وسوف يكون يوم غدٍ السبت، هو أول أيام الشَّهر المبارك بحسب المبتى الفقهيّ لسماحة الأخ المرجع السيد محمد حسين فضل الله (ره)، وكما هو الرأي العلميّ للمرجع السيد الخوئي (ره)، حيثُ تولَّد الهلال اليوم الساعة الحادية عشرة والدقيقة الثامنة صباحاً، بحسب توقيت بيروت، وسيُصبح قابلاً للرؤية بواسطة الآلات المكبرة عند غروب الشمس في مناطق عديدة من أمريكا الجنوبيّة نشترك معها في جزءٍ من الليل كالأرجنتين والبرازيل. وعليه سوف يكون يوم غد السبت هو أول أيام الشهر المبارك في كل البلدان الَّتي تشترك بجزء من الليل مع مناطق أميركا الجنوبية المذكورة، في حين يكون يوم الأحد هو أوَّل أيام الشَّهر الكريم في البلدان الَّتي لا تشترك معها بجزء ولو يسير من الليل.
أيها الإخوة، إنَّ شهر رمضان هو شهرُ التزوُّد بالعمل الصَّالح، وهو شهر التدريب على تطويع النَّفس وترويضها وتعويدها على التَّحلِّي بالأخلاق الحسنة، حتَّى نفوز من خلال ذلك برضوان الله الأكبر وهو العتق من النَّار والفوز بالجنَّة.
ومن هنا سنتوقَّف قليلاً مع كلمات النبي(ص) المرويَّة عنه في استقبال شهر رمضان، فقد روى الشَّيخ الصَّدوق في الأمالي أن النبي(ص) خطب بالمسلمين في آخر جمعة من شعبان في بعض السنين فقال(ص): أيُّها النَّاس، إنَّه قد أقبلَ إليكُم شهرُ الله بالبركةِ والرَّحمةِ والمَغفرة، شهرٌ هو عندَ الله أفضلُ الشُّهور، وأيَّامُه أفضلُ الأيام، ولياليه أفضلُ اللَّيالي، وساعاتُه أفضلُ الساعات. وهو شهرٌ دعيتُم فيه إلى ضيافة الله، وجُعِلتُم فيه من أهلِ كَرامةِ الله، أنفاسُكم فيه تسبيح، ونومُكم فيه عبادة، وعملُكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مُستَجَاب. فاسألوا اللهَ ربَّكم بنيَّاتٍ صادقة، وقلوبٍ طاهرة، أن يوفِّقَكُم لصيامِه وتلاوة كتابِه، فإنَّ الشَّقيَّ من حُرِمَ غُفرانَ الله في هذا الشَّهر العظيم.
ونحن نرى رسول الله(ص) يرسم لنا من خلال هذا الحديث صورة هذا الشهر وقيمته ودوره وأهميَّته في حياتنا، من خلال الأهداف الَّتي يوصلنا إليها. وأهمُّها خلق حالة التَّقوى في نفوسنا، حتَّى نتحرّك على هديها في كلِّ مفرداتِ حياتنا.
فالله سبحانه إنَّما شرَّع التشريعات العباديَّة انطلاقاً ممَّا تُحقِّقُه في حياة الإنسان، من رعاية وتصحيح وتسديد ليتقدَّم نحو الأفضل فلا يغرق في حالات الضياع والفوضى والارتباك، ولم يشرِّع الله العبادات لحاجته إليها فالله سبحانه هو الغنيُّ المطلق، وهو الغنيُّ عن كلِّ قُرُبات النَّاس من صلاةٍ وصومٍ وعبادة، وهذا الأمر يدركه العقل الصافي، وهو مروي في كثير من كلمات المعصومين(ع) ومنها ما رُويَ عن بعض خطب الإمام علي(ع) قال: أمَّا بعد، فإن الله سبحانه وتعالى خَلَقَ الخلقَ حين خلَقَهُم، غنيًّا عن طاعتهم، آمِنًا من معصيتِهم، لأنَّه لا تضرُّه معصيةُ من عصاه، ولا تنفَعُه طاعةُ من أطاعَه.
لقد أراد سبحانه أن يربطنا به من خلال العبادة ليجعلنا نعيش حالة الحبِّ له، ومن الطبيعيِّ أنَّ من يحبُّ أيَّ أحد فإنَّه لا يقوم بأيِّ عمل يُسيءُ إليه، كما أنَّ من الطَّبيعيِّ أنَّ كلَّ عصيان في أمرٍ أو نهيٍ متَّصلٍ بالله، يمثِّلُ إساءةَ لله وإسخاطًا له.
ولهذا فإنَّ فلسفة العبادة في الحقيقة هي أنَّها تخلق التَّوازن في نفس الإنسان وتدفع نوازع الخير فيه إلى التغلُّب على نوازع الشَّرّ، من خلال الارتباط بالخير المطلق الَّذي هو الله سبحانه وتعالى، وبالتَّالي فإنَّ العبادة تبني في الإنسان مناعةً ضدَّ الانحراف والفساد والضياع، وتسهم في بناء شَّخصيَّته الإنسانيَّة، ليتخلَّص بذلك من الانجرار وراء الشَّهوات والغرائز الحيوانيَّة الكامنة فيه، ولينضبط مع الواقع الإنسانيّ الّذي يحكِّم العقل في ذلك كلِّه فيضبطُها ويحسن توجيهها وإشباعها.
لقد أراد الله سبحانه أن يصوغ حياتنا كلَّها بكلِّ تفصيلاتِها صياغةَ الخير والحقِّ، من خلال تشريعاته كالصَّلاة الهادفة العميقة الواعية الَّتي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والَّتي تجعلنا نعيش الارتباطَ بالله، ومراقبتَه في كل حركةٍ وحالةٍ وموقع.
وعليه ليس هناك أيُّ قيمة معنويَّة لصلواتنا إن لم تؤدِّ إلى هذا الدَّور ولم تُعطِ هذه النتائج، المتمثِّلة بالانضباطِ الكامل أمام كلِّ قضايا الحقِّ والصَّلاح، وهذا هو المعنى الَّذي ورد في الحديث الشريف عن رسول الله(ص) قال: لا صلاةَ لِمَن لم يُطِعِ الصَّلاة، وطاعةُ الصَّلاة أن ينتهيَ عن الفَحشاءِ والمُنكر، وفي حديث آخر له(ص) قال: من لم تنهه صلاتُه عن الفحشاءِ والمُنكَر لم يزدَد من الله إلا بُعدًا، لأنَّها حينذاك، لا تُجسِّدُ شعار: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5]، ولا تنسجمُ مع دعوة: اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ [الفاتحة: 6].
ولقد شرَّع الله سبحانه لنا الصَّوم، وأراد لنا أن نصوغ أنفسنا صياغة التقوى من خلاله، ومن هنا قيَّم الرسول(ص) شهر الصَّوم، بأنَّه أفضلُ الشُّهور بكلِّ تفاصيله وأجزائه، بأيَّامِه ولياليه وساعاتِه ولحظاتِه. فالآية التي شرَّعت الصَّوم، خاطبت المؤمنين بقوله سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة: 183] فما هي حركة التقوى في حياتنا، الَّتي يحققها الصوم؟
إنَّ التقوى هي أن تراقب الله وتتطلَّع إليه في كلِّ حركاتك وسكناتك، وفي كلِّ فكرة تفكِّر بها وكلّ كلمةٍ تنطق بها ومنهجٍ تنهجُه. فالصوم في ذاته يمثل طاعةً لله والتزامًا بأمره مهما كانت مستلزماتُه، والصَّومُ أسلوبٌ تربويٌّ يسهمُ في خلق حالة التَّقوى في حياة الإنسان في حركته أعماله اليوميَّة، وعقليَّة التَّقوى في فكره عندما يخطِّط لمستقبله، وروح التَّقوى في نفسه.
والصَّومُ في فلسفتِه ليس مجرَّدَ انضباطٍ عمليٍّ بالإمساك عن الطَّعام والشَّراب واللذائذ والمفطّرات الماديَّة من طعامٍ وشرابٍ وجنس، بل هو إضافةً إلى ذلك حالةُ انضباطٍ معنويٍّ، يتفاعل فيها الإنسان مع المحيط من حولِه فيساهمُ في إعمارِه عمليًّا وأخلاقيًّا وروحيًّا، فيتحسَّسُ معاناةَ النّاس من حوله، ويتعاملُ معهم من خلال المحبَّة والعدل، فيتحرَّك لمساعدتِهم إن كانوا بحاجةٍ إلى المساعدة فيهتم بالفقراء والمساكين وويلتفت إلى الأيتام وأصحاب الحاجات. ويتجاوز كذلك عن أخطاء النَّاس وإساءاتهم إن أساؤوا إليه، فيَصِلُ مَن قطعه ويعفو عمَّن ظلمه ويُعطي من حرمه، ويتحرك من خلال قاعدة العدل ليعيدَ الحقوق المتوجِّبة عليه إلى أصحابها وأهلها، ويعتذر إلى الَّذين أساء إليهم حتَّى تفرغ ذمَّته من كلّ حقٍّ لازم عليه تجاه النَّاس.
والصَّوم كذلك هو ممارسة روحيَّة نقترب فيها كثيراً من الله بمراعاة كلِّ ما يحبُّه مِنَّا، ويريدُه لنا. وقد قال تعالى: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [آل عمران: 31].
أيُّها الإخوة، إنَّ اللهتعالى يريدُ لنا أن نكون الأحرار في دنيانا، من خلال الإرتباط به، لأنَّه العالمُ القادرُ الغنيُّ القويُّ المُطلَق، وعندما نرتبط به -وهو خالق الخلق- فإنَّنا نستغني به عن كل من سواه من المخلوقين، وبذلك نكونُ الأحرارَ الَّذين لا يستعبدُهم النَّاس ولا تستعبدُهم حاجاتُهم، وإنَّ الصَّوم يعلِّمنا كيف نتحرَّرُ من سجن الارتباط بالعادة، فنتمرَّد عليها، لأنَّنا من خلال الصَّوم نتدرَّبُ على ترك العاداتِ والحاجاتِ الحلالِ المُبَاحَة، فيكونُ تركُ الحرام فيما بعدُ أيسرَ وأسهلَ وأقلَّ تكلفةً ومؤونة. فإنَّ لكلِّ واحدٍ فينا عاداتُه وتقاليدُه، التي تكون حلالاً وقد تكون حراماً، فنستفيد من الصَّومِ كيفَ نَتَمرَّدُ عليها، ولا نُستَعبَدُ لها.
أيها الإخوة، إنَّ الصَّوم بابٌ من أبوابِ الحرِّيَّة الَّتي فتحها الله لنا ليعلِّمَنا كيف نتحرَّرُ في إرادَتِنا وقراراتنا، فنملكَ حرِّيتَنا في ذلك كلِّه، فننطلق مع ما يوحيه الفكر والتَّدبُّر والتحليل والتَّفكُّر وننتصرَ على كلِّ ما يستعبدُنا، وإنَّ الصَّومَ يعلمنا كيف نحبُّ الله حقًّا ونبغضُ أعداءَه بالقول والعمل والشعور، فلا نحبَّ إلا المؤمنين الطيبين، ولا نرفضَ إلا الظَّالمين والمستكبرين، ومن هنا نطلُّ على ما يجري في عالمنا العربي والإسلاميّ حيثُ ما زالت منطقتنا تعيش في حالةٍ من الفوضى وعدم الإستقرار، في ظل تمدد الحركات التكفيرية وتزايد خطرها على الواقع، خصوصاً مع احتلالها مساحات واسعة من العراق، واستمرار سيطرتها على مناطق في سوريا، الأمر الذي يكشف حجم المؤامرة من خلال الأطراف التي تقف خلفها وتدعم المشروع التخريبي الذي تنفذه، مستهدفةً من خلاله أمن المنطقة واستقرارها.
وقد بات من الواضح أنَّ هذه الجماعات تتحرك بدعمٍ مباشر من دول إقليمية تحاول استغلال الأوضاع في العراق من أجل تحقيق مكاسب سياسية عبر إثارة الحساسيات المذهبية، بما يؤدي إلى تمزيق العراق، بعد إغراق سوريا في مستنقع الفوضى والصراع.
كما لا يمكن أن نغفل الدور الذي لعبه الإستكبار الأمريكي في نشأة هذه الجماعات ودعمها، رغم تظاهره بالوقوف ضدها، ذلك أنه يستفيد بشكل كبير من ممارساتها، التي تصبّ في خدمة مشروعه الهادف إلى إسقاط محور المقاومة، وقد تكشّفت في الآونة الاخيرة مزيد من المُعطَيات عن الدعم الصهيوني المباشر للمسلحين، خصوصاً في الجولان والقنيطرة، حيث يمدهم جيش العدو بالعتاد والدعم اللوجيستي، كما يقوم بعلاج جرحاهم في المستشفيات الميدانية التي أنشأها على الحدود، وقد ترافق ذلك مع قيامه بقصف عدة مواقع للجيش السوري في الجولان، الأمر الذي يُبرز مدى التورط الصهيوني المباشر في الحرب على سوريا، والتنسيق الكامل بين العدو والجماعات التكفيرية في مواجهة الجيش السوري.
أما في العراق، فتواصل الجماعات التكفيريّة “غزواتها” الهمجية واعتداءاتها، متوعدةً بمواصلة مسيرها إلى بغداد والنجف الأشرف وكربلاء، الأمر الذي يعبّر عن خطورة المشروع الفتنوي الذي يراد لها أن تلعبه، لذلك، يجب أن تتوحد كل الجهود من أجل القضاء على خطر هذه الجماعات واستئصال وجودها وتهديدها للعراق وسوريا وقضايا الأمة ووحدتها، حيث تقوم بتشويه صورة الإسلام في الداخل والخارج، كما تساهم في تحقيق مخططات الإستكبار والإحتلال الصهيوني.
إن علينا أن نكون في أقصى درجات الإستنفار، في مواجهة الخطرين الصهيوني والتكفيري، اللَذين يشكلان تهديداً خارجياً وداخلياً، يسعى إلى ضرب مجتمعاتنا ونشر الفوضى والدمار والإرهاب فيها. لذلك، يجب أن لا نتلهَّى بالتفاصيل السياسية الصغيرة عن مواجهة التحدي الأمني في ساحتنا الداخلية، في ظل استمرار المخططات الشيطانية التي شنت موجةٍ جديدةٍ من التفجيرات الإجرامية التي استهدفت الأبرياء من خلال التفجيرات الأخيرة في الروشة والطيونة، التي سبَقها تفجيرٌ آخر في ضهر البيدر، إضافة الى مخططات تستهدف مستشفيات ومرافق طبية وعامة، حيث بات استهداف المدنيين سلاحا جباناً مُفضَّلاً تستخدمه هذه الجماعات، لتنفيذ مخططاتها ومآربها الإجرامية.
إن هؤلاء المفسدين في الارض، يواصلون كيدهم ومخططاتهم الشيطانية، لكن الله تعالى سيحبط كيدهم ويدمر مكرهم، كما ان عيون المقاومة ومعها الأجهزة الأمنية ستبقى مفتوحة، وأيدي المقاومين ستبقى جاهزة لتضرب من جديد رؤوس هذه الوحوش البشرية التي تُمثل قمة الإنحطاط والتخلف والإجرام. وهي لن تَلقى ـ إن شاء الله ـ إلا السقوط والخزي والخسران في الدنيا والاخرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنهم يكيدون كيداً * وأكيد كيداً * فمهّل الكافرين أمهلهم رويدا [الطارق:15-17] وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …