عندما يحكم الفاسدون

السّلطة مغرية، والوصول إليها حلم الكثيرين. وإذا كان النّاس بحاجة إلى من يتولّى شؤونهم ويرعاهم، ويؤمِّن متطلّباتهم السياسيَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة، حتّى تنتظم شؤون البلاد والعباد، فإنَّ هذه السّلطة الّتي هي مسؤوليَّة كبيرة وثقيلة، قد ينحرف بها البعض عن مسارها إلى مسارٍ مخالفٍ تمامًا لما ينبغي أن تكون عليه.

السّلطة ـ في أيِّ صورة كانت ـ هي أمانة في عهدة من يتولَّاها، وقد يحسن البعض الحفاظ على هذه الأمانة، بينما يخونها البعض الآخر، ويستغلّها، ويحوِّلها إلى مرتعٍ لأطماعه الشَّخصيَّة، وإلى فرصةٍ للاغتناء والحصول على الوجاهة والثّروة والمكاسب، ولو من غير وجه حقّ. وقد يظلم، ويؤذي، ويغتصب حقًّا، أو ينصر باطلًا، أو يمدّ يده إلى ما ليس له، وقد يعقد الصّفقات الباطلة، والاتفاقيّات الّتي ليست في مصلحة البلد والنّاس… كلّ ذلك بسبب إغراء الموقع الّذي يوسوس له بضرورة اقتناص الفرصة والاستفادة منها، يُستَثنى من ذلك من كان الإيمان والصّدق سبيله في الحياة، ومن حافظ على عهد الأمانة بين يديه.

ومن هذا المنطلق، كانت رسالة الإمام عليّ(ع) الحازمة والشَّديدة اللَّهجة إلى أحد المعيَّنين مِن قِبله في الولايات الخاضعة لحكمه. وممّا جاء فيها:

“أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي كُنْتُ أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي، وَجَعَلْتُكَ شِعَارِي وَبِطَانَتِي، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِي رَجُلٌ أَوْثَقُ مِنْكَ فِي نَفَسِي، لِمُوَاسَاتِي وَمُوَازَرَتِي وَأَدَاءِ الأمَانَةِ إِلَيَّ… فَلَمَّا أَمْكَنَتْكَ الشِّدَّةُ فِي خِيَانَةِ الأُمَّةِ، أَسْرَعْتَ الْكَرَّةَ، وَعَاجَلْتَ الْوَثْبَةَ، وَاخْتَطَفْتَ مَا قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الْمَصُونَةِ لأَرَامِلِهِمْ وَأَيْتَامِهِمُ، اخْتِطَافَ الذِّئْبِ الأَزَلِّ دَامِيَةَ الْمِعْزَى الْكَسِيرَةَ…”.

ويستمرّ الإمام(ع) في تقريع الرّجل ومحاسبته على خيانته الأمانة، إلى أن يقول له: “فَسُبْحَانَ اللهِ! أَمَا تُؤْمِنُ بِالْمَعَادِ؟ أَوَمَا تَخَافُ نِقَاشَ الْحِسَابِ! أَيُّهَا الْمَعْدُودُ كان عِنْدَنَا مِنْ ذَوِي الألْبَابَ، كَيْفَ تُسِيغُ شَرَاباً وَطَعَاماً، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّكَ تَأْكُلُ حَرَاماً، وَتَشْرَبُ حَرَاماً؟!…”.

وتالله، كم عندنا في عالمنا من أمثال هذا الرّجل، ممّن يعطّلون ضمائرهم، ويبيعون النّاس الّذين ائتمنوهم على أنفسهم ومصائرهم وأموالهم! وكم تعاني مجتمعاتنا، بعد أن انتشر فساد أصحاب السّلطة، حتّى غدت المناصب رديفًا عند البعض للفساد والسّرقة والاغتناء بغير وجه حقّ!

وإذا كان الإمام قد حاسب من أخطأ وخان الأمانة، فمن يحاسب من يخطئ عندنا، ويمعن في خطئه وارتكاباته الكثيرة، ولا يجد من يحاسبه أو يضع له حدًّا؟

ولا يظنّنّ أحد أنّه في منأى عن المسؤوليّة والحساب، فقد نكون كلّنا مسؤولين بطريقة أو بأخرى؛ بتأييد حاكم فاسد، أو التّعمية عن مسؤول سارق، أو انتخاب شخص غير مؤهَّل، أو اتّباع من لا تنطبق عليه مواصفات الحكم الصّالح… ووالله، لا تستقيم أمَّة، ولا تعيش القوّة والازدهار، إلّا إذا حوكم فيها القويّ قبل الضّعيف، والمسؤول قبل المواطن العاديّ، كما يوحي حديث الرّسول(ص): “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ، أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الحَدَّ”، وحديثه: “لن تقدَّس أمّةٌ لاَ يُؤْخَذُ لِلضَّعِيفِ فِيهَا حَقُّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتِع”.

عندما يحكم #الفاسدون !

#مقال #موقع #بينات

#سوسن_غبريس

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …