المصدر: “النهار”
يارا عرجة
عوض أن تُروى أرض لبنان بالماء والحياة أصبحت تروى بدماء أبنائها ، وعوض أن تتفتح براعمه وتزهر في الربيع ها هي تتساقط قبل أن تتفتح وتثمر. شباب براعم، في ريعان عمرهم، يستشهدون في صفوف حزب الله، ودّعوا طفولتهم وصباهم ودخلوا عالماً لم يكن من اختيارهم بل فُرض عليهم.
محمد جواد ناصر ناصر، من آخر شهداء حزب الله الذي استشهد بحسب والده الأستاذ ناصر ناصر (أبو جواد) لـ “النهار”، “في جرود عرسال اللبنانية”.محمد ذو العشرين ربيعاً، مواليد 24 نيسان، كان ينعم بحياة طبيعيّة كغيره من الشبّان، إذ كان “تلميذاً جامعياً، يلعب التايكواندو، الكاراتيه، الكيك بوكسينغ. كما كان يمارس السباحة، ولديه سيّارة ودرّاجة”. يتحدّث الوالد بفخر عن ابنه الشهيد قائلاً إنّه “لم يكن لديه مشاكل مع أحد، بل كان محبوباً، ذا شخصية كاريزماتيّة، فكاهياً، يساعد المسنين، مما ترك أثراً طيباً في نفوس وذاكرة كثيرين من أبناء ضيعته ومنطقته”.
فارس منذ الطفولة
اعتاد محمّد منذ صغره على القتال، إذ كان سلاحه القلم والبندقية في آن واحد. يقول والده “محمّد كان من ضمن نخبة التدخل في المقاومة، تمّ تدريبه منذ سن الرابعة عشرة على القتال بينما كان لا يزال طالباً على مقاعد الدراسة. ولكنَّ الوضع اختلف منذ عقدٍ إلى اليوم، فإسرائيل لم تعد العدو الوحيد. محمّد كان جاهزاً للقتال ضدّ إسرائيل، إنّما الوضع الراهن والاخطار المحدقة جعلاه يندفع للدفاع عن الوطن والقتال ضد التكفيريين. فاليوم، السكين يحزّ على رقاب الجميع، ولكلّ قناعته. الآراء منقسمة بين مؤيد ومعارض، قد يقول أحدهم أنتم تمنعون السيارات المفخخة، فيما يقول آخر سيذبحون الجميع من دون استثناء. هناك نظريات مختلفة، أما نظريتي أنا، فتقضي بأنّ الموس ستطاول رقاب الجميع. محمّد ذهب للدفاع عن وطنه، ونحن مهّدنا له الطريق، ساعدناه للتوجّه إلى السلسلة الشرقية على الأراضي اللبنانية. هذه قناعتنا: الدفاع عن الوطن”. ولكن حال محمّد هو حال إخوته أيضاً، وحال شريحة كبيرة من المجتمع كذلك. هناك أمر أخطر من إسرائيل اليوم وهو التكفيريون، لذا أنا أحبّذ استشهاده ضدّهم لأنّ الوضع خطر”.
القصير نقطة البداية
بدأت الحكاية من القصير، حيث قاتل الوالد كما الابن ضدّ التكفيريين، قبل أن تنتهي في عرسال. يفيدنا ناصر أنّ تاريخ ابنه قد بدأ بالقتال “منذ أكثر من سنتين، منذ أيّام القصير، إذ كان يذهب ويعود وهو يتابع حياته المدرسية والجامعية بشكل عادي وطبيعي. وكان ذلك مُرحَّباً به لأنّ محمّد كان يدافع عن الوطن وعن شريحة كبيرة من المجتمع اللبناني”.
يبدو أنّ القصير كانت أرضاً جمعت بين الأب وابنه، إذ يشير ناصر لقتاله هناك “أنا أيضاً حاربت في القصير، إلاّ أنني لم أعد أقاتل بالجرود بسبب وجود عناصر آخرين هناك يقومون بالواجب”. ويروي ناصر حادثة بحسب قوله لا يتحدّث عنها الإعلام، كانت قد حصلت على مرأى عينيه: “خلال وجودي في القصير توجهت إلى منطقة اسمها رتبة، كان ما يُسمى الجيش السوري الحرّ و”جبهة النصرة” قد دخلا إليها، وهناك جمعوا النساء في مكان واحد على حدة، والرجال في مكان آخر، ثمّ عُريّت تلك النساء وأُعدم أولئك الرجال”.
ظروف الاستشهاد
كانت جرود عرسال المحطة الأخيرة لمحمّد حيث دافع ببسالة عن أرضه وزملائه، ويقول الوالد: “استشهد محمّد أثناء التحام على بعد مترين. تتعددّ الروايات حول استشهاده، إنما تلتقي جميعها في مكان واحد: محمّد في نخبة التدخل، كان هناك أناس محاصرون وقد توجّه لفكّ أسرهم بعدما كانوا يقاتلون ضد “النصرة”. صعد مقاتلون من “داعش” إلى التلّة الشمالية وهي من أخطر التلاّت بعد تلّة موسى. وخلال فكّ الحصار استشهد لأنّ الالتحام كان على بُعد مترين لا أكثر. فأصبح محمّد بطلاً في ذلك اليوم، قبل أن يُشيّع في 21 أيّار”.
قبل الاستشهاد وبعده
كان اللقاء الأخير الذي جمع بين محمّد وعائلته منذ “عشرين يوماً” قبل توجهه إلى الجبهة. كان الشهيد بحسب والده “يتملكه شعور بالاستشهاد قبل شهرين، لم تكن روحه في جسمه وهذه مسائل روحانية وعقائدية لا يمكن الجميع استيعابها. لم نُفجع بالخبر، كنّا مستعدّين لهذا الأمر، لم نتفاجأ بشهادته، تلقينا الخبر بشكل عادي”، كنت فخوراً به وراضياً عنه “عندما تمّ إبلاغي باستشهاد محمّد في الصباح من الجهاز المعني في “حزب الله”، قلت الحمد لله، اللهم تقبّل منّا هذا القربان. والحمد لله على وصول الجثمان إلى لبنان”. يؤكّد الوالد أنّه لا يتكلّم عن “عواطف بل عن عقيدة ومبدأ. لقد استدعيت شقيقه من المعارك للمشاركة في تشييع محمد وقد قام بغسله أيضاً. نحن على اقتناع ونحن لنا مبدأ وعقيدة في هذا الموضوع، نحن لا نخجل بما نقوم به. ولا ندير آذاننا إلاّ للتكليف الشرعي، ولما يقول سماحة السيّد حسن نصرالله”. ويتابع ” قناعتنا قبل الـ 2006 شيء وما بعد الـ 2006 شيء آخر. فقبل ذلك العام، كان البعض متفرّغاً فقط للقتال، وأمّا الآن، أصبحنا جميعنا نحمل البندقية لنحمي أنفسنا بغية الحفاظ على وجودنا، ولكننا في المقابل لا نعتدي على أحد إن لم يُعتدَ علينا. نحن لا نظلم أحداً”.
نظرة الأبوّة
يروي ناصر ناصر حادثة حصلت معه في إحدى الليالي حيث كان قصد أحد الأمكنة في سبيل لقمة عيشه “كان ثمّة حفلة وكان عليّ أن أقوم بإحضار الساهرين من هناك، فرحت أبكي متسائلاً كيف أنّ ابني يقاتل من أجل هؤلاء الشبّان؟ هؤلاء يجب أن يحاربوا أيضاً. الحرب لها عدّة أوجه، ليس من الضروري المحاربة بالسلاح، إنّما تكون المحاربة بالقلم أيضاً، بالاقتصاد، بالمواد الغذائية. ابني في المقلب الآخر يحارب بينما هؤلاء يسهرون. وأنا أقول له “الله يهنّيه بشهادته””. لا يتجنّب الوالد أبداً ذكر يوم استشهاد ابنه، فيؤكّد لـ “النهار” “لو كان بإمكاني إرجاع عقارب الساعة، لعُدت إلى ذلك اليوم من جديد. أنا الآن مرتاح لمكان ابني، أعرف أين ذهب”.