سعدى علوه-بخط يده، كتب كل عسكري مخطوف عند «جبهة النصرة» في جرود عرسال ما يحتاجه من أغراض. ومن هاتف إلى آخر، طارت الرسائل القصيرة لتحط بين أيادي الأمهات القابضات على جمر ما لا يمكن وصفه. جمر انتظار المصير المجهول عشية انقضاء العام الأول على خطف أكبادهن.
كان الوقت عصر الخميس وكانت التعليمات تقول بسماح «النصرة» لهــن برؤية أبنائهن قبل ظهر يوم الجمعة. كيف سيجهزن الأغراض المطلوبة، كيف ستطهو الأمهات ورق العنب والكبة بلبن والشيش برك، أو حتى الكوسا؟ وماذا عن «دحرجة» اللبنة البلدية والخبز المرقوق على الصاج؟.
ليس لـ «رنة» رسائل «الواتس آب» عند أهالي العسكريين المخطوفين الوقع نفسه عند بقية اللبنانيين. عبر وسيلة الاتصال تلك، شكّل أهالي العسكريين المخطوفين عند «النصرة» مجموعة («غروب») تضم 16 عائلة. كل من العائلات جعلت لرسالة المجموعة رنة خاصة مختلفة عن غيرها من الرسائل.
الرنة «الغالية» هذه هي ما سمعته العائلات عندما وصلت رسالة الشيخ حمزة حمص، والد العسكري الأسير وائل حمص، تعلم بقية المجموعة بالموافقة على تأجيل الموعد لغاية يوم السبت، ثاني أيام العيد.
لم ينم أقارب العسكريين في تلك الليلة. الأطفال، أطفال العسكريين المخطوفين، يسألون عن لقاء آبائهم، فيما انشغل البقية في تحضير المطلوب وما ليس مطلوباً «من البابوج إلى الطربوش»، على حد تعبير احدى الأمهات.
كان التجمع النهائي عند حاجز الجيش «عين الشعب» على مدخل عرسال. وكان القرار واضحاً «لن يسمح لأي ذكر شيعي بالغ بزيارة العسكريين الشيعة المخطوفين». توجهت حافلتان تحمل كل واحدة منهما 25 فردا، وبرفقتهما باص صغير يتسع لـ 15 شخصاً، نحو حاجز وادي حميد ومنه إلى جرود عرسال، بعدما زاروا الشيخ مصطفى الحجيري (أبو طاقية) في منزله في عرسال ليرافقهم في رحلتهم.
بعد حواجز الجيش واكب نحو 20 مسلحاً من «النصرة» موكب الأهالي. أخبروهم أن زيارتهم ستبدأ أولاً بجولة على مخيمات النازحين في جرود عرسال للوقوف على «الظروف الصعبة التي يعيشون فيها» كما قال أحد قادة «النصرة» للأهالي. النازحون هم في الأساس من بلدتي فليطا وراس المعرة السوريتين اللتين طالب أمير «النصرة» في القلمون أبو مالك التلي باستردادهما لإعادة «النساء والأطفال في مخيمات الجرود إليهما»، وفق ما نقل عنه الأهالي. ثلاثة عسكريين قال التلي للأهالي إن «النصرة» ستفرج عنهم في مقابل الإفراج عن خمس نساء في السجون وعند الأمن العام بينهن جمانة حميد، وهي لبنانية من عرسال اوقفت في شباط 2014 بينما كانت تقود سيارة مفخخة، وسجى الدليمي وهي عراقية وزوجة سابقة لزعيم تنظيم الدولة الاسلامية «داعش» ابي بكر البغدادي، وقد اوقفت في نهاية العام 2014، وعلا العقيلي التي اوقفت في الفترة نفسها وهي زوجة ابي علي الشيشاني احد قياديي «جبهة النصرة.» واشترط التلي الإفراج عن بقية العسكريين، أي الـ 13 بعد إعادة فليطا ورأس المعرة للسماح للنازحين منهما، والموجودين في الجرود، للعودة إلى منازلهم. نقل الأهالي عن التلي قوله إن «الرجال لن يعودوا إلى فليطا ورأس المعرة، فقط النساء والأطفال».
بعد المخيمات، وصلت قافلة الأهالي، في ظل حراسة مشددة إلى مغارة في مناطق سيطرة «النصرة» في جرود عرسال. هناك أعطيت كل عائلة رقماً. كان رقم ولدها المخطوف. صُفّ العسكريون ثمانية على يمين الخيمة الكبيرة وثمانية على يسارها. كان على كل عائلة أن تجد ابنها ـ الرقم. بعد كل هذا الوقت، لم يتعرف الأهالي على أولادهم باللحى واللباس الموحد والكوفيات السوداء إلا قبل الوصول إليهم بمتر أو مترين. بعضهم عرف ولده عندما وقف ليلاقيه.
دموع وعناق وسلام وكلام كثير. «لا ينقصهم سوى الحرية» كما نقل الأهالي عنهم. تركت كل عائلة مع ولدها نحو ساعة من الزمن. بعض العسكريين تعرفوا إلى أطفال لهم ولدوا بعد شهر أو أربعة اشهر من اختطافهم. كانوا قد تركوهم هناك أجنة في أرحام زوجاتهم.
بعد الجولة بين العائلات وأبنائهم، حضر أبو مالك التلي واجتمع بالأهالي ونقل شروط «النصرة» لتحرير العسكريين الـ16. بعد مغادرته، سمح للأهالي بتمضية بعض الوقت مع أبنائهم، ثم جاء عناصر «النصرة» طالبين منهم توديع أهاليهم معلنين أن ساعة الفراق قد حانت.
لم يكن الوداع تفصيلا في اللقاء. «كيف سيكون وضع الإنسان وهو يودع فلذة كبده وهو يجهل إن كان سيراه ثانية أم لا»، يقول أحد الأهالي.
على الطريق الوعرة نفسها عادوا كأجساد هم الذين غادرتهم أرواحهم منذ آب الماضي لتستقر وتحوم من حول أبنائهم المخطوفين، أبنائهم الذين سقط أربعة من بينهم في الخطف ذبحا واعداماً بالرصاص وبأبشع الأساليب.
«عيد بأي حال عدت.. ثم مضيت يا عيد»، تقول إحدى الأمهات بصوت مخنوق عبر الهاتف.
السفير