سماحة العلامة السيد محمد علي فضل الله
الجمعة 19 شوال 1435هـ الموافق 15 آب 2014م
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمينَ، وَأفَضَلُ الصَّلاةِ والسَّلامِ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِ اللهِ وأعزِّ المُرسَلينَ سَيِّدِنَا وحَبيبِنَا مُحَمَّدٍ رسولِ اللهِ وعلى آلهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَأصحَابِهِ الأخيَارِ المُنْتَجَبين.
يقول المولى جلَّ ذكره في مُحكمِ كتابِه: وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:60].
آيةٌ قرآنيَّةٌ تدعو كلَّ المسلمين للإعداد والاستعداد لمواجهة القوى المعادية والتَّي تكيد للإسلام ولخطِّ العدل، والَّتي تعمل على إثارة الفوضى وتخريب المجتمعات من خلال أساليبها الملتوية والَّتي تتنوّع قد تصل إلى الحرب الهادفة إلى الإلغاء والقتل والهدم والتَّدمير.
إنَّ هذه الآيات تدعونا إلى الدِّفاع عن أنفسنا من خلال إعداد القوَّة، وإلى الجهاد الدّفاعي الَّذي هو حقُّ لكلّ إنسان يواجه الاعتداء، ولعلَّ حق الدِّفاع عن النَّفس والمال والعِرض والمُعتقد حقٌّ مقدَّسٌ، شرَّعته كلُّ الأديان السَّماوية والوضعيَّة لأنَّه حقٌّ إنسانيٌّ عام يحتاجُه الإنسان في بقائه ووجوده.
ولو استعرضنا تاريخ الحروب الإسلاميَّة في زمن النبي(ص)، لوجدناها حروباً قامت بهدف ردِّ اعتداءات المشركين، الَّتي مارسوها في مواجهة المسلمين.
وإلا فإنَّ الإسلام يطرح بوضوح وصراحة، مقولة “لا إكراه في الدين” إذ لا مجال لإجبار فرد على اعتناق أي دين أو فكرة، لأنَّ القلب والفكر هو مركز الإيمان والاعتقاد، وهذا ممَّا لا مجال للسيطرة عليه، من قبل أي كان، سوى من صاحبه، فلا فرصة للإكراه فيه، بل نحنُ نرى أنَّ النبي(ص) تعامل مع أصحاب الأديان بعقد العهود وحفظها، فقد تعاهد مع المشركين في الحديبية على أن يكون لكلِّ طرف الحقُّ في اعتناق أيَّ دين يريد، دون أن يحقَّ لأيِّ فرد إجبارَه على خلافه، وهكذا كان الأمر مع اليهود والنصارى، فلم يواجههم إلَّا حين نقضوا العهد، ومارسوا الاعتداء.
لذلك فالدولة الإسلاميَّة تتعامل مع كلِّ مواطنيها من غير أهل الإسلام، باحترام، وإن كانت في ذات الوقت تدعو الجميع للحوار والمناقشة لأفكارهم في مقابل فكر الإسلام.
فالإسلام في كل أوقات سيطرة حكمه، كان يعطي الآخرين من أهل الأديان كلَّ الحريَّة فيما يعتقدون، بل يقول لهم وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ [سبأ: 24].
وهذا ما نلمسه من حركة رسول الله(ص) حيث صالح اليهود في المدينة، وصالح المشركين في الحديبية، ولم يقاتلهم إلا بعدما نقضوا عهودهم، وبعدما بادروا هم إلى حربه بأنفسهم، فكانت حربه لهم دفاعا عن النَّفس وحماية لدولته من الاعتداء.
ومن هنا نفهم كيف تعامل الإسلام مع أهل الأديان الأخرى، بعدالةٍ ومساواةٍ. وأنَّه لم يتعامل معهم بالإكراه، برغم قدرته عليه، ولم يؤذهم ولم يخرجهم من أرضهم ولم يصادر أملاكهم كما يفعل البعض في هذه الأيام.
إنَّ مشكلة البعض أنّهم يتحرَّكون من خلال الجهل باسم الإسلام، ويجتزئون سيرة رسول الله(ص) ويختارون منها أحداثًا يبنون عليها شرعيَّة مواقفهم من دون أن ينظروا إلى ظروفها المحيطة وأسبابها الدافعة إليها، وهو ما يؤدي إلى فهم مجتزأ للإسلام وإلى تشويه كبير لمفاهيمه. ويجب علينا أن نلتفت إلى ذلك جيِّدا أيها الإخوة حتى نستطيع أن نميِّز الحق من الباطل، والصِّدق من الكذب، والحقيقةَ من الأوهام.
وقد مرَّت علينا منذ أيام ذكرى معركة أحد، الَّتي ذكر المؤرِّخون وأصحاب السير أنَّها جرت في السنة الثالثة للهجرة وذلك في السابع من شوَّال أو في الخامس عشر منه. ولذلك سوف نتوقف معها قليلاً، لعلّضنا نستخلص منها بعض العبر الَّتي تنفعنا في حركتنا على خطّ الإسلام.
فبعد أن هاجر رسول الله(ص) من مكة واستقر في المدينة ليقوم ببناء دولة الإسلام الأولى، تحركت قريش لمواجهته وحربه، فكانت في البداية معركة بدر في السَّنة الثانية من الهجرة، والَّتي انتصر فيها المسلمون على الرَّغم من التفوُّق الكبير لمصلحة قريش و جيشها في العدد والعتاد.
وجرت معارك صغيرة أخرى بنفس النتائج ما أشعر قريش بقوَّة رسول الله(ص) ودولته الإسلاميَّة النَّاشئة، ما جعلهم يشعرون بضرورة الاستعداد أكثر، فجمعوا منهم ومن حلفائهم من اليهود والقبائل، الَّتي هي على الشرك، عدداً كبيراً تجاوز الثلاثة آلاف مقاتل مجهزين بأفضل أنواع السلاح في حينه وتوجَّهوا إلى حرب النَّبي.
وكان النبي(ص) شديد الحذر من قريش، لذلك عمل من أجل الإعداد والاستعداد وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ [الأنفال: 60]، وكان عمُّه العبَّاس يرسل إليه بأخبار قريش واستعداداتها، حتَّى لا تباغته بحرب لم يستعدَّ لها. فأرسل إليه كتابًا مع رجل مسلم من غفار يخبره فيه بتوجُّه قريش إلى حربه.
وحين قرأ النَّبيُّ(ص) الكتاب، تشاور مع أصحابه، واستقرَّ رأيُه على ملاقاة المشركين خارج المدينة لأنَّه: ما غُزي قومٌ في عُقر دارِهم إلا ذَلُّوا.
واستعدَّ(ص) بجيشه الّذي بلغ ألف مقاتل وأعطى قيادة المهاجرين لعلي(ع)، وعند وصوله إلى بعض المواقع، نظر إلى كتيبة خلفه، فقيل له: إنَّهم حُلفاءُ ابنِ أبي سلّول، من اليهود، فقال(ص): لا نستنصرُ بالشِّركِ على أهل الشِّركِ، فرجع ابنُ أبيّ رأسُ المنافقين في المدينة ومن معه. وكانوا قرابة ثلاثمئة مقاتل.
ومضى الرسول(ص) حتى بلغ أُحُد، وهو جبل خارج المدينة، فجعل ظهرَ المسلمين إليه، وصفَّ أصحابه للقتال، وكان في الجبل ثغرة صغيرة يمكن أن يتسلَّلَ منها العدو، فجعل عليها خمسين رجلاً، قائلاً لهم: احْمُوا ظُهُورَنَا، فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ، فَلَا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تَشْرَكُونَا، ونهى المسلمين عن القتال قبل صدور أمره إليهم.
وجاء المشركون، فجعلوا المدينةَ خلفَهم وأُحُدَ أمامهم. وبدأت المعركة، فحاول المشركون أولاً اقتحام الثغرة ففرَّت الخيل من النَّبل، ثمَّ ثارت المعركة بشدَّة فقُتِلَ كلُّ قادة بني عبد الدَّار وجُرحوا، فبان الانكسار على المشركين وبدأوا بالفرار.
ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، حين خالف أكثرُ الرُّماة أمر رسول الله(ص)، ونزلوا لأخذ الغنائم بعدما شهدوا انتصار المسلمين ولم يبق منهم إلا عشرة، فانكشفت الثغرة في ظهر المسلمين ورآها خالد ابن الوليد فاقتحم منها، فلم يلتفت المسلمون إلا وخيل المشركين في أوساطهم، ومن ورائهم، فكان عنصر المفاجأة شديد الوقع على المسلمين، واختلط الحابل بالنابل، ولم يبق حول النبي(ص) إلا عدد قليل من المسلمين ومنهم علي(ع). واشتدّ القتال حول رسول الله(ص) حتَّى أنَّه أصيب وكسرت رباعيَّته، وانتشر الخبر بأنَّه قد استشهد، فازداد انهزام المسلمين إلى أن عرفوا أنَّه ما يزال حيًّا وأنه ما يزال يقاتل فالتفُّوا حوله من جديد واستعادوا المبادرة في القتال حتَّى انتهت المعركة وانسحبت قريش بعد أن دفنت قتلاها.
ودفن المسلمون شهداءهم الّذين بلغوا سبعين شهيدًا وكان من بينهم مصعب بن عمير الَّذي استشهد وهو يدافع عن الرسول، والحمزة عمُّ رسول الله وبطل الإسلام، والَّذي حزن رسول الله(ص) حزنًا شديدًا لما جرى عليه من التمثيل بجثَّته.
إنَّ معركة أحد تعطينا درساً فاصلاً، يتمثَّل بضرورة الالتفات إلى أنَّ مغريات الدُّنيا قد تؤدّي بالإنسان إلى الفشل، وأنَّ الدُّنيا قد تتزيَّن للإنسان بأفضل الزِّينة حتَّى توقِعَه في الخطيئة وفي الحرام من حيث لا يشعر.
لقد استطاعَ المُشركون أن يوقِعوا كلَّ هذا القتل بالمسلمين بسبب مجموعة صغيرة خالفت أمرَ رسولِ الله(ص) واتبعت شهواتها وغرَّها المال، وهو مالٌ حرامٌ لأنَّ رسولَ الله(ص) كان قد نهاهم عنه وعن أخذه.
إنَّ أثرَ المال الحرام أيُّها الإخوة، قد يصل إلى أنَّه يهدم المجتمعات، من خلال ما يحدثُه فيها من الشروخ، وقد يحوِّل النَّصر إلى هزيمة، كما حدثَ في معركة أحد، وقد يخدم أعداء الأمَّة في مخطّطاتهم لتدميرها، لأنَّ الّذي يجمع المال الحرام، لا يتوانى عن التعامل مع أعداء الأمَّة، فيتجسَّس لصالحهم، ويساعدهم في مخطّطاتهم وفي بذر الفرقة والخلاف بين أفراد المجتمع، كما نرى في كثير من الحالات، وأخطرها عندما يعمل الاستكبار على إثارة الخلافات باسم الدِّين من خلال عملائه في الدَّاخل الَّذين يعملون على إثارة الفتن، إمَّا بشكل مباشر، وإمَّا بشكل غير مباشر من خلال بعض المؤمنين الَّذين يتحمَّسون لنصرة الدّين فيقعون من حيث لا يدرون في هدمه وتدميره من خلال عدم وعيهم لمخطّطات أعداء الأمّة في الداخل والخارج.
أيُّها الإخوة، لقد ورد في الحديث عن رسول الله(ص) أنَّه قال: إذا بلَغَكُم عن رَجُلٍ حُسنُ حالٍ فانظروا في حُسنِ عقلِه، فإنَّما يُجازَى بعقلِه، ولذلك علينا أن نكون الواعين في كلِّ شيء حتَّى لا نقع تحت تأثير الاستكبار فنخرِّب مجتمعاتِنا وبيوتَنا بأيدينا. ومن هنا نطلُّ على ما يجري في عالمنا العربيِّ والإسلاميّ حيثُ توقفت الحرب العسكرية على غزَّة بعد شهرٍ من القتل والإجرام الصهيوني المُتفلِّت من أيِّ ضوابط أخلاقية أو إنسانية، بعد أن حصد آلاف الشهداء والجرحى من الأبرياء، لتنتقل المعركة الى الميدان السياسي، حيث تخوض فصائل المقاومة معركةً أخرى من أجل فرض شروطها على العدو في رفع الحصار عن غزَّة، ومنع أي محاولةٍ للمسِّ بسلاح المقاومة، الذي بات الضمانة الوحيدة لمنع الصهاينة من تحقيق أهدافهم، حيث عجرت “إسرائيل” رغم ما تملكه من سلاح، عن تحقيق أي إنتصار تبرِّر به ما لحق بها من خسائر، كما فشلت من جديد، في فرض وقائع جديدة، وكسر إرادة المقاومين، ممَّا أرغمها على التفاوض من أجل تحقيق هدنةٍ تُعيد الهدوء إلى مستوطناتها التي ألهبتها صواريخ المقاومة، على مدى أيام العدوان، والفضل في ذلك، لكل من قدِّم الدعم العسكري والصاروخي للمقاومة الفلسطينية وخصوصاً الجمهورية الإسلاميَّة الإيرانيَّة الَّتي أثبتت التزمها بقضية المقاومة بعيداً عن اي حسابات مذهبيَّة ضيقة.
لقد أعادت قضية فلسطين توحيد الأمة من جديد، بعيداً عن الفرز المذهبي والفتن التي أجَّجتها الجماعات التكفيرية المدعومة من قوى إقليميَّة ودوليَّة، بهدف تمزيق المنطقة، وتحويل دولها الى كيانات ضعيفة وممزقة وغارقة في الحروب الدموية، بما يكفل إبقاء “إسرائيل” الدولة الأقوى في المنطقة، وتقديمها كنموذجٍ ديمقراطي وسْط غابةٍ يعمّ فيها القتل وسفك الدماء، من خلال جرائم الجماعات التكفيريَّة، الَّتي يدَّعي الإستكبار رفضها. لكنَّ السؤال الكبير الَّذي يفضح خلفية المخطط الغربي هو: من دَعم هذه الجماعات ومن فتح لها الحدود، ومن قدّم لها السلاح والعتاد والدعم؟
ونسأل أيضًا هل يعقل أن تنمو هذه الجماعات وتتمدد دون علم أجهزة الإستخبارات ودون أن تكون تحت رعايتها وإشرافها، بسبب ما تحققه من أهداف يسعى إليها الإستكبار؟ و لماذا يتمّ ضربها في العراق و يُسكت عنها في سوريا؟ إنَّ كلَّ هذه الأسئلة كفيلة بكشف تبعيّة هذه القوى التكفيريَّة للمشاريع الاستكباريَّة الصهيونيَّة والغربيَّة.
وفي عودة إلى الشأن العراقي، فقد تم الإتفاق على اسم رئيس وزراء جديد تم تكليفه بتشكيل الحكومة، حيث نأمل أن يؤدي ذلك إلى إعادة لمّ الشمل على المستوى السياسي، بين كافة القوى والمكونات العراقية، بما يحقق حفظ أمن ووحدة العراق ومواجهة الخطر الذي يشكله التكفيريون، الَّذين يرتكبون المجازر ويقومون بعمليات التهجير الجماعي لعشرات الآلاف من العراقيين.. لذلك، فإنَّ المطلوب من كلِّ الأطراف في العراق، رصّ الصفوف وإعادة الوحدة الَّتي تكفل إلحاق الهزيمة بهؤلاء المفسدين في الأرض.
أما في لبنان، غير البعيد عن حرائق المنطقة، فقد كانت عملية استهداف الجيش اللبناني في عرسال، محاولة لضرب إستقرار البلد، ينبغي أن تُشكّل ناقوسَ الخطر الَّذي يدفع الجميع إلى الشعور بالمسؤوليَّة الوطنيَّة لمواجهة الخطر التكفيريّ، وإلا فإنَّ ما جرى، قد يتكرَّر في أي منطقة لبنانيَّة أخرى..
إنَّ هذا الخطر الذي حذَّرنا من السكوت عنه، ومن خطورة رعايته وإيجاد المبرِّرات له، سيطال الجميع ولن يستثنيَ أحداً، وهذا ما شهدناه في عرسال… حيث بات السكوت عنه مشاركةً في الجريمة، كما باتت محاربته واجباً وطنياً لا يقتصر على فئة معينة من اللبنانيين، حتى لا يسقط البلد كله في أتون الفتن والفوضى والإنقسام..
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالمُؤْمِنُونَ } {التوبة:105}
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين