لم يتردد سمير جعجع في القول صراحة إنّه لا يمانع فتح نافذة حوار جدّي مع «حزب الله». هذا لا يعني أّنه لا يناور أو أنّه لا يحاول استنساخ لعبة غريمه الماروني ميشال عون بتحرير الأبواب الموصدة بفعل صراع السنوات التسع. موقف ليس بجديد على الرجل، ولكن طبعاً في رأسه «موّال».
كما لم تنزلق ستريدا جعجع في كلمتها المنبرية أمام الحكومة طالبة الثقة، حين قلّصت المسافات بين معراب والضاحية الجنوبية و«نبشت» أوجه الشبه بين الحزبين عوضاً عن «قبور الخلافات»، داعية «حزب الله» للتماثل بـ«القوات» وتسليم سلاحه.
لا يمزح الكثير من القواتيين حين يودعون رسائل «الغرام عن بعد» لبعض أصدقاء «حزب الله»، انطلاقاً من معادلة تقول إنّه على الرغم من وجود الحزبين على طرفيّ النقيض في السياسة، فإنّ ما يجمعهما يكاد يكون كافياً للالتقاء في مكان ما.
عملياً، تتقصّد معراب أن تلعب لعبة من خارج المألوف. إنها المرة الأولى التي يحملها التوتر إلى تفحّص خياراتها من جديد. لم تهضم بعد كيف يعاملها سعد الحريري في شأن «الأوتوستراد السريع» المفتوح بينه وبين الرابية. كما لا يريحها هذا الحوار المستجد، ولا تطمئن لخواتيمه. ولهذا قررت التحرك.
وبمعزل عن مآرب «القوات» وخلفيات قائدها من هذا التودد الغامض تجاه أصحاب الرايات الصفر.. فإنّ لوحة التشابه بين الحزبين، فكرة لا تغادر أذهان القواتيين، لا بل تستفزهم إيجاباً، منذ أن صار للضاحية الجنوبية مربع حديدي اسمه «حزب الله». قيادة قوية، سلاح، انتصارات كبيرة، أرضية متماسكة، خطاب عقائدي يخترق الجمهور، بيئة حاضنة… كلها عناصر تؤمن له استمرارية المؤسسة الحزبية، وتمددها الشعبي.
قد يكون هذا النجاح التنظيمي، سبباً ليكون «حزب الله» الخصم الأول لـ«القوات» كما تصوره أمام جمهورها، إلى جانب التباعد الفكري والعقائدي بين الحزبين. ولكنه قد يكون أيضاً القدوة في الأداء الحزبي، أو النموذج الذي تطمح معراب لبنائه، وإن كانت عاجزة طبعاً عن بناء مؤسسة من هذا الثقل، لاعتبارات عديدة.
فـ«النسخة الأم» من «القوات» ابتكرت مفهوم «الدويلة» داخل الدولة. نجحت في تثبيت قدميها على الأرض من خلال تنظيم عسكري قوي قيادة ونفوذاً، ومؤسسات اجتماعية رافدة وحضور على الأرض.
إلا أن النسخة الثانية الحديثة العهد تنظيمياً، لا تزال تعاني من ثغرات عدّة تحول دون تمددها جماهيرياً، كما يطمح القيمون عليها. العمل جار لبناء مؤسسة حزبية وفق هيكيلة وقواعد واضحة، لكنها تتمحور عملياً حول سمير جعجع كقائد أوحد، وصاحب الكلمة الفصل.
بين التنظيمين، التناقض فاقع في العقيدة. الأول ولد بهدف مقاومة إسرائيل، فيما الثاني راح باتجاه الاتكال عليها في حروبه الداخلية، مع أنّه يعتبر أنّ علّة وجوده هي «المقاومة» أيضاً. ولكن ثمة مشتركا غير مرئي، في استراتيجية التخطيط للعمل الحزبي، في صلابة القيادة، في التعبئة الجماهيرية، في بناء جدار دعم اجتماعي…
في الوجه الديني، ثمة تلاقٍ ولو من بعيد. إذ تشكل العقيدة الدينية العمود الفقري لـ«حزب الله». هو الحزب المقاوم الذي يرتكز إلى فكر جهادي استقطب شريحة كبيرة من المناصرين والمؤيدين، وسابق للتنظيم الهرمي. وهي محركه للعمل المقاوم الذي نشأ في سبيلها قبل أن يخطط لقيام الحزب.
أما «القوات» التي تنتقد «حزب الله» على بعده الديني، فحاولت ملامسة هذا البعد من دون أن تتبناه، فاستخدمت أسلوب دغدغة مشاعر جمهورها بواسطة بعض الشعارات الدينية، كالصليب المشطوب، وإن لم تضمه رسمياً إلى عدّة شغلها، والإلتصاق بمرجعية بكركي، لا سيما في زمن الكاردينال نصر الله بطرس صفير، فيما صور الرموز الدينية حاضرة دائماً في مناسباتها. وتتخذ «القوات»، بنظر بعض أهلها، الصبغة المسيحية كهوية وليس كمدرسة عقائدية، لأنها مدنية الإنتماء.
وعلى عكس المفهوم الإسلامي للعمل السياسي الذي يدمج بين الرؤيتين الدينية والسياسية، فإن المفهوم المسيحي اللاهوتي يفصل بين الدين والدولة، كما يرى بعض القواتيين.
البعد الاجتماعي هو ملعب التقاء بين التنظيمين ومداهما الحيوي، حيث يكمن سرّ نجاح «حزب الله» في إنشاء بيئة اجتماعية داعمة له تحتضن أفكاره وتحمي ظهره. وقد اختبرها في أكثر من محطة، آخرها خلال حرب تموز، وأثبتت فاعليتها. أما مرتكزات هذه البيئة الحاضنة فهي مؤسسات اجتماعية صحية، تربوية، ثقافية، قادرة على ملاحقة قضايا الجمهور وتأمين حاجاته…
أما «القوات» فكانت أول من ابتكر الدعم الاجتماعي للتنظيم الحزبي من خلال «تقمّص» دور الدولة بكل تركيبتها المؤسساتية، بدءاً من النقل المشترك وصولاً إلى جباية الضرائب… وهو المجال الذي تحاول اليوم «القوات» استعادته من خلال فتح «حنفية» مساعداتها.
راهناً، هو «فيزا» وصول معراب إلى الجمهور المسيحي، تتولاه هيئة الشؤون الاجتماعية التي تأخذ تعليماتها مباشرة من «الحكيم»، تهتم بالكثير من النواحي الاجتماعية من خلال تقديم بعض المساعدات العينية. وتحاول أن تغطي مختلف المجالات، لا سيما وأنّها لا تزال تفتقد إلى مؤسسات متخصصة من مستشفيات أو جامعات باستثناء ما استعادته من مؤسسات إعلامية.
في البنية التنظيمية لا تجوز المقاربة المتطابقة، إذ يمتاز «حزب الله» بهيكلية تنظيمية تحترم الهرمية الحزبية، لا تعرف أي شكل من أشكال التوارث الاقطاعي أو العائلي، بكل مستوياتها القيادية والقواعدية.
أما «القوات» فقد ارتكزت في عهدها السابق إلى البنية العسكرية، في صورة مستنسخة عن تجربة الجيوش النظامية، لناحية إنشاء الثكنات، المدرسة الحربية، التراتبية العسكرية، الآليات المستخدمة.
أما في الحركة التنظيمية، فيحاول جعجع أن يبني مؤسسة حزبية صلبة شرط أن تبقي الأمرة بيده، على عكس طريقة انتاج القرار في «حزب الله» حيث يغلب طابع «الشورى» على الطابع الفردي، مع العلم أنه من الصعوبة التقليل من القدرات التأثيرية لـ«كاريزما» السيد حسن نصرالله.
وتحاول «القوات» تعويض النقص التنظيمي من خلال تركيز اهتمامها على الوجود المناطقي وفي النقابات لتثبيت حضورها، إلى جانب الجامعات والمدارس التي ترصد لها ميزانيات عالية. ومع ذلك، هي عاجزة عن تحويل المؤسسة الحزبية الناشئة إلى خزّان بشري.
وإذا كان الخطاب التعبوي الذي تتقّنه «القوات» هو حجر الزاوية للتنظيم المتين، إلا أنه لا يغني عن التمدد الاجتماعي الذي يشكل «خبز» التنظيم و«ماءه» كي «يستمر ويبقى».
في كيفية التعاطي مع البيئة المشتركة، نجح «حزب الله» في تكريس ثنائية شيعية احترم فيها خصوصية الغير، في حين فشلت «القوات» في تقبّل الآخر على الساحة المسيحية، وعجزت عن وضع سقف، كما غيرها من قيادات أبناء طائفتها، للتنافس داخل البيت المسيحي.
مع العلم أنّ القواتيين يفاخرون بإيمانهم بحق الإختلاف وقبول الآخر، ويتهمون الضاحية الجنوبية باعتماد سياسة الإلغاء.
في آليات التواصل مع الجمهور تمكّن التنظيمان من تحقيق نجاح في خلق عصب قوي، وهنا تلعب «القضية» دوراً مركزياً في استقطاب الرأي العام، لا سيما وأنّ الحزبيْن بنيا قواعدهما من بيئة «الفلاحين» وليس «البرجوازيين».
اتخذت «القوات» لنفسها منذ نشأتها قضية الدفاع عن المسيحيين، وهي اليوم تحاول تصوير الخطر في سلاح المقاومة لتبقي على القضية حيّة، قادرة على جذب الجمهور إليها. في حين أن «حزب الله» يتخذ من العداء لإسرائيل قضيته الاستراتيجية، ويعمل على تعبئة شارعه حول هذه القضية.
ويبقى الثبات على الموقف. هذا ما يحاول سمير جعجع إثباته بعد جولة «الطلاق الحكومي» على أنّه «صاحب المبدأ»…
في بال القواتيين «صلابة» السيد نصر الله المشابهة لصلابة قائدهم.
كلير شكر
المصدر: السفير