حكومة الزمطة

جان عزيز
بين تفجير بئر حسن وتصعيد طرابلس، تأكد أكثر فأكثر، كيف تشكّلت هذه الحكومة، في بعدها المحلي البلدي على الأقل. ففي مكان ما يمكن القول إنهم الأصوليون، أو التكفيريون أو الانتحاريون، من يعود إليهم الفضل الأول داخلياً في الخروج من مأزق فراغ الأشهر العشرة. أي هي الفتنة، أو على الأقل شبحها وخطرها، ما دفع فريقي الصراع المميت من حول هاويتها، إلى محاولة الالتفاف عليها.

هكذا هرب الطرفان ــــ الحزبيان والمذهبيان والإقليميان ــــ من شاهق اللجة الفتنوية، وتلاقيا وسط منحدر جانبي، ممكن تسميته فترة اختبار، أو عبور صحراء، أو وقت مستقطع، او أي شيء يشبه التسوية. وهي هذه الهدنة بالذات، ما أدرك الانتحاريون أنها تناقض حساباتهم وتخالف رهاناتهم ومصالحهم وتستهدف مشروعهم. فقرروا الاعتراض عليها بالدم، بين طرابلس وبئر حسن.
أصلاً، ليست مصادفة ان تأتي رسائل استهداف التسوية الحكومية، موقّعة بدماء مذهبية واضحة الهوية: الدم العلوي في الشمال، والدم الإيراني في بيروت. ذلك أن رعب الفتنة الذي كان خلف خلق حكومة تمام سلام لبنانياً، كان في الحقيقة موقعاً على تلك الإيقاعات المذهبية بالذات. وليست مصادفة أيضاً أن يكون مسيحيو الطرفين، من المساهمين الأساسيين في دفع خصومهم قبل الحلفاء، إلى العمل على تجنب تلك الهاوية. ففيما كان تمام سلام متمركزاً في انتظاريته، ذهب ذات يوم شاب صريح جريء اسمه سامي الجميل إلى مكتب زميل له في مجلس النواب، اسمه علي فياض. الأول تسكنه الحماسة الصادقة. الثاني يهجسه تاريخ الجماعات وعلم الظواهر الخلدونية. قال الكتائبي لنائب حزب الله: أنتم تتصرفون عكس مصلحتكم. لأن سلوككم في الواقع اللبناني ومن ثم السوري، سيؤدي إلى إضعاف الحريري سنياً. وحين يقضى على الرجل ستكتشفون أنكم صرتم وجهاً لوجه مع وجه الفتنة المذهبية بوجوهها الأشد أصولية وتكفيراً. لم يعلق فياض، لكن الفكرة وصلت.
في المقابل كان ثمة رجل كبير عتّقته السنون والتجارب، اسمه ميشال عون، يفتح خطوط التواصل طيلة أشهر، مع سعد الحريري ومع الرياض، كارزاً بالأمثولة المقابلة: لا مصلحة لكم في سياساتكم الراهنة ومواقفكم الحالية. تعتقدون أن حالة التعبئة التي تقومون بها ضد حزب الله تخدمكم وتشد عصب شارعكم وتحافظ لكم على شرعيتكم وتمثيلكم وزعامتكم؟! أنتم في ذلك كمن يلحس المبرد. فهذا الخطاب يدخلكم في حلقة جهنمية تصاعدية خاسرة بالنسبة إليكم. فالتوتير المذهبي الذي تنزلقون إليه، لا يستفيد منه إلا خصومكم الأصوليون في شارعكم. يكبر حجمهم، تتزايد شعبيتهم، فتجدون أنفسكم مضطرين إلى مزايدة مذهبية أعلى. ومرة جديدة يستفيدون هم أكثر، وتخسرون أنتم اكثر. سألوه ذات مرة: أي خيار بقي لنا؟ فكان جوابه مباشراً شفافاً: أنا خياركم. أنا صلة وصل انفتاحكم على الفريق الشيعي، وأنا ضمانة اعتداله واعتدالكم. فلا تقعوا في حلقة الموت، ولا تدفعوا الآخرين والوطن إليها.
هكذا انطلقت فكرة التسوية. كان بري وجنبلاط جاهزين مساعدين ممهّدين. فنضجت الطبخة. حتى أعطي الضوء الأخضر الإقليمي والدولي، خصوصاً بمساعي دايفيد هيل، في جولاته المكوكية واتصالاته الهاتفية المسوتلة السرية… فصار تمام بيك دولة الرئيس وهو في بيته.
غير أن القضية لم تبرم بعد، ولم تقفل. فأياً كانت العوامل المحلية، يظل واضحاً ان دوافعها الخارجية لا تزال عرضة لاهتزازات وتبدلات. صحيح أن بيروت اقتنصت حكومتها. غير أن مستويات التأثير الأخرى لا تبدو مريحة ولا مستمرة في الدفع التفاؤلي السابق. ففي سوريا تعثر مسار جنيف، ولو موقتاً. وعاد حديث السلاح وفرصة الحسم العسكري وخاصرة درعا ومعركة يبرود. وفي العراق تصاعدت لغة الدم أكثر. فيما الخليج يشهد محاولة سعودية أخرى لفرض مقولة الرياض مجدداً «الأمر لي». ما أوحى بأن خطوات الرياض السابقة، من قرار ملاحقة الجهاديين خارج المملكة، إلى إبعاد بندر وصولاً إلى خبرية دعم الجيش اللبناني… لم تكن مؤشرات انقلاب سعودي. بل سلسلة إجراءات لإقناع واشنطن بأن الرياض قادرة هي أيضاً على خوض معركة الغرب ضد الإرهاب. وخصوصاً لإغراق الغرب مجدداً في نظرية أن أصل الإرهاب في سوريا هو في بقاء الأسد على رأسها. وأن فرصة أخرى لإسقاطه ولضرب الإرهابيين معاً، تستحق أن تعطى كل الحظوظ والإمكانات، ولو مرة بعد.
ولم يكن ينقص الأجواء الخارجية العائدة إلى توترها، إلا استعادة ثورة كييف البرتقالية بعد 12 عاماً على جزئها الأول. هناك، حيث رفع علم «الثورة السورية» في الميدان، إلى جانب أنصار الغرب في حصارهم لما يعني باللغة الروسية «أرضنا المجاورة»، اكتملت العودة إلى الحرب الباردة الملامسة للسخونة في أي لحظة، أو الجاهزة لنظرية الحروب التنفيسية، عند اي ضرورة. حتى أن الترقب بدأ يتطلع إلى ما بعد أولمبياد سوتشي بعد أيام قليلة. فحين يطفئ القيصر الجديد شعلة ألعابه، قد يكون كلام من نوع آخر مع تلك الإزعاجات الغربية، بين رئة روسيا وقلبها.
هكذا يمكن القول ان بيروت قد اقتنصت حكومتها فعلاً في اللحظة الأخيرة. حكومة «الزمطة» هي. كأنها عبرت باب التسوية قبل إقفاله بثوان، أو بأجزاء من إحداها. فهل يدرك أصحابها إدارة دفتها بعد تبدل الرياح؟ إنه الامتحان المتجدد، حول نسب مؤثرات الداخل والخارج، في سياسة بلد تعبأ سيادته مع سياسته في الحقائب الدبلوماسية.

المصدر: صحيفة الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …