نحن هنا لا نريد بحث هذه المسألة بجميع تفاصيلها، ولكن نشير إليها باختصار غير مخلّ، باعتبار أنّ الشّهادة الثّالثة في الأذان والإقامة، أصبحت من الشّعائر الأساسيّة للإسلام عند البعض، والّتي لا يمكن، في نظرهم، الاستغناء عنها، ولذا فإنّهم يعتبرون عدم إتيانها خروجاً على حقيقة الدّين والملّة والمذهب. والسّؤال: هل إنَّ الشّهادة الثّالثة جزء من فصول الأذان والإقامة؟ وهل هناك في الأدلّة ما دلّ على الجزئيّة في المقام؟ وما هو منشأ هذه الشَّهادة وأقوال العلماء فيها؟
ـ أوّلاً: لم يقل أحد من العلماء المشهود لهم بالفقاهة والنّباهة، إنّ الشّهادة الثّالثة جزء أو فصلٌ من فصول الأذان والإقامة، بل يكاد ذلك يكون مستغرباً أشدّ الاستغراب، كما سيتبيّن ذلك عند استعراض كلماتهم، فلم يعتبرها أحد منهم جزءاً مستحبّاً، فضلاً عن الواجب، بل اعتبرها بعض المتأخّرين مستحبّةً من باب الذّكر المستحبّ لا الجزئيَّة، وهناك القلّة ممن اعتبروها جزءاً تساهلاً وتسامحاً في أدلّة السّنن، وهي القاعدة الفقهيّة المعروفة بينهم(1)، وقد ردَّ الكثير من علمائنا على المسألة، بأنّ القول بالجزئيّة بدعة، هذا فضلاً عن أنّ هذه القاعدة الفقهيّة لم تثبت أمام النّقد، كما ناقشها الكثيرون وناقشناها في بحث مستقلّ، بل كانت السّبب في كثيرٍ من العقائد الفاسدة والعادات المتخلّفة التي انتشرت عند مذهب أهل البيت(ع)..
لأنّه كما هو معلوم، فإنّ القول بالجزئيّة يحتاج إلى تشريع، والتّشريع لا بدّ من ورود النّص عن النبيّ(ص) أو الأئمّة المعصومين(ع) فيه، وهو في المقام مفقود..
ثانياً: عند ملاحظة الرّوايات، لم نجد أيّ ذكر للشّهادة الثّالثة فيها، وقد وصلت الرّوايات إلى خمس وعشرين رواية، ليس فيها أيّ ذكر للشّهادة الثّالثة، ونورد هنا بعضها، فقد روى أبو بكر الخضرمي وكليب الأسدي عن الإمام الصَّادق(ع)، أنّه حكى لهما الأذان فقال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر/ أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله/ أشهد أن محمّداً رسول الله، أشهد أنّ محمداً رسول الله/ حيّ على الصّلاة، حيّ على الصّلاة/ حيّ على الفلاح، حيّ على الفلاح/ حيّ على خير العمل، حيّ على خير العمل/ الله أكبر، الله أكبر/ لا إله إلا الله، لا إله إلا الله).. [راجع: الوسائل، باب كيفيّة الأذان والإقامة]..
وأمّا أقوال العلماء في المسألة فمحصورة بأربعة:
الأوَّل: قول المشهور بأنَّها ليست جزءاً من الأذان والإقامة، بل تحرم مع اعتقاد الجزئيَّة، لأنَّه تشريع، وتشريع ما لم يشرِّعه الله تعالى هو بدعة، وإدخال في الدّين ما ليس فيه.
الثَّاني: القول بكراهة الشَّهادة الثَّالثة مع عدم الاعتقاد بالمشروعيَّة وإلا حرمت.
الثّالث: القول بالحرمة مطلقاً للشّهادة الثّالثة ولو بدون اعتقاد الجزئيّة.
الرَّابع: ما ذهب إليه المجلسي في [البحار، ج81، ص:111]، من القول بجزئيّة الشّهادة الثّالثة، خلافاً للمشهور استحباباً في الأذان، واستحسنه بعض المتأخّرين.
وقد صرّح بهذه الأقوال الأربعة في [المستند، ج2، ص:486]، وسنورد بعض كلمات العلماء بأسمائهم، وما ذهبوا إليه بالنِّسبة إلى الشَّهادة الثَّالثة:
أوّلاً: علّق الشّيخ الصّدوق(ره) على رواية أبي بكر الحضرمي وكليب الأسدي السّالفة الذّكر بقوله في كتابه “من لا يحضره الفقيه”: هذا هو الأذان الصّحيح، لا يزاد فيه ولا ينقص عنه، والمفوّضة، لعنهم الله، قد وضعوا أخباراً وزادوا في الأذان (محمّد وآله خير البريّة) مرّتين، وفي بعض رواياتهم بعد الشّهادة لمحمّد: أشهد أنّ محمداً رسول الله، أشهد أنّ عليّاً وليّ الله مرّتين، منهم من روى بدل ذلك أشهد أنّ عليّاً أمير المؤمنين حقّاً ـ مرّتين..
ولا شكَّ أنَّ عليّاً(ع) وليّ الله، وأنَّه أمير المؤمنين حقّاً، وأنّ محمّداً وآله(صلوات الله عليهم) خير البريّة، ولكن هذا ليس في أصل الأذان، وإنّما ذكرت ذلك ليعرف بهذه الزّيادة المتهمون بالتفويض، المدلسون أنفسهم في جملتنا.. انتهى.
وهو كما ترى، أيّها القارئ العزيز، فإنّ الشّيخ الصّدوق، وهو من أعاظم علماء الطّائفة كما لا يخفى، يقول بأنّ من يقول بذلك هو من المفوّضة، والمفوّضة كما تعلم، حكم عليهم بالشّرك، كما في رواية الإمام الرّضا(ع)، وقد اعتبرهم من الّذين اندسّوا في خطّ أهل البيت، وألصقوا أنفسهم بالشّيعة ودلّسوا في دينهم وزادوا.. وهل بعد هذا التَّصريح شكّ في من لا يعتقد بجزئيَّتها، كما يعتقد بعض المفسِّرين الَّذين يجب أن يلتزموا المنهج العلميّ والموضوعيّة في طروحاتهم، وأن يلتزموا جانب الحقيقة دون تحيّز وانفعال، فهم المسؤولون أمام الله والنّاس عمَّا يطرحون ويقولون.
ثانياً: قد ذهب الشَّيخ الطّوسي في كتابه “النِّهاية”، وهو من أكابر العلماء كما لا يخفى، إلى القول: وأمَّا ما روى من شواذ الأخبار من قول: أشهد أنّ علياً وليّ الله، وأنّ محمداً خير البريّة، فمما لا يعمل عليه في الأذان والإقامة، فمن عمل به كان مخطئاً… [النهاية، ج1، ص:293].
وفي كتابه “المبسوط”، قال الشَّيخ(ره): فأمَّا قول: أشهد أنَّ عليّاً وليّ الله، وأنَّ محمّداً خير البريَّة، على ما ورد من شواذ الأخبار، فليس بمعمولٍ عليه في الأذان والإقامة، ولو فعله الإنسان يأثم..[المبسوط، ج1، ص:99].
وهو كما نرى، اعتبر العمل به من الإثم والخطأ، لأنَّه شرع ما لم يشرّعه الله، فهو مبتدع، وكلّ بدعة ضلال، وكلّ ضلالة في النّار.
ثالثاً: صاحب كتاب “اللّمعة الدمشقيّة”، الشّهيد الأوّل، الّذي قال في كتاب الدّروس: أمّا الشّهادة لعليّ(ع) بالولاية، وأنَّ محمداً وآله خير البريّة، فهما من أحكام الإيمان لا من فصول الأذان، وقطع في النّهاية بتخطئة قائله، ونسبه ابن بابويه (وهو من علمائنا الكبار) إلى وضع الغلاة [الدّروس، ج1، ص:162]، وقد ذكر العبارة نفسها في كتاب “اللّمعة الدّمشقيّة”.
رابعاً: قال الشّهيد الثّاني في كتابه “الرّوضة البهيّة”[ج1، ص:573]: لا يجوز اعتقاد شرعيّة غير ذلك (الفصول) في الأذان والإقامة، كالتشهّد بالولاية لعليّ(ع)، وأنّ محمداً وآله خير البريّة، أو خير البشر، وإن كان الواقع كذلك، فما كلّ واقع حقاً يجوز إدخاله في العبادات الموظّفة شرعاً، المحدّدة من الله، فيكون إدخال ذلك فيها بدعةً وتشريعاً، كما لو زاد في الصَّلاة ركعةً أو تشهّداً، أو نحو ذلك من العبادات، ولو فعل هذه الزّيادة أو إحداها بنيَّة أنّه منها، أثم في اعتقاده…
خامساً: وقال المحقِّق الأردبيليّ في كتابه “مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان” (الجزء 2 ، ص181 ـ 182) ، بعد أن نقل قول الصدوق المتقدِّم: «…فينبغي اتّباعه؛ لأنه الحق.. ».
سادساً: وقال الشّيخ جعفر كاشف الغطاء(ره)، ليس من الأذان قول: أشهد أنّ عليّاً وليّ الله، وأنّ محمّداً وآله خير البريَّة، وأنَّ عليّاً أمير المؤمنين حقاً مرَّتين، لأنَّه من وضع المفوّضة لعنهم الله، على ما قاله الصّدوق ( كشف الغطاء – ج1 ص275).
سابعاً: وقال المحقِّق السّبزواري في كتاب “الذّخيرة”[ ص:254]: وأمّا إضافة أنّ علياً وليّ الله، وآل محمد خير البريّة، وأمثال ذلك، فقد صرَّح الأصحاب بكونها بدعة، وإن كان حقّاً صحيحاً، إذ الكلام في دخولها في الأذان هو موقوف على التّوقيف الشّرعيّ، ولم يثبت، انتهى. أي على النّص ولم يثبت.
ثامناً: وفي كتاب “فقه الإمام جعفر الصّادق(ع)” [ج1، ص:167]، للشّيخ المرحوم محمّد جواد مغنيَّة، قوله: واتَّفقوا جميعاً على أنَّ قول: أشهد أنَّ علياً وليّ الله، ليس من فصول الأذان وأجزائه، وأنّ من أقرّ به بنيَّة أنَّه من الأذان، فقد أبدع في الدّين وأدخل فيه ما هو خارج عنه.
تاسعاً: وفي كتاب “المستند”[كتاب الصَّلاة، ج2، ص:287]، لزعيم الحوزة العلميَّة السيِّد الخوئي(ره) قال: وإن كان الإتيان بها (أي الشَّهادة الثَّالثة) بقصد الجزئيَّة بدعةً باطلةً وتشريعاً محرّماً.
عاشراً: وكذلك صرَّح سيِّدنا الأستاذ المرجع المرحوم، السيِّد فضل الله(ره)، بأنّها ليست جزءاً من الأذان ولا الإقامة في أكثر من بحث له، ولا يرجح إدخال ذلك في الآذان والإقامة حتى بغير عنوان الجزئية وخاصة في الإقامة التي يحتمل أنها جزء مستحب من الصلاة .
أي، فكما أنَّك لا تستطيع إضافة ركعة أو قول: أشهد أنَّ عليّاً وليّ الله في التَّشهّد الثَّاني، لأنَّه تشريع، والتَّشريع موقف على النَّصّ ، فمع عدم ورود النَّصّ فيه، يكون تشريعه بدعة، فكذلك لا تستطيع إضافة الشَّهادة الثَّالثة في الإقامة، لأنَّه إدخال جزء لم يشرِّعه الله ورسوله على عبادة توقيفيَّة يقتصر فيها على ما ورد، ويوجد أقوال أخرى لعلماء كثر على الرّأي نفسه الّذي أوردناه لهم. وللإنصاف نقول إنَّ بعضهم، كالسيِّد الحكيم(ره)، تساهل بها لا من جهة الجزئيَّة، بل من جهة قاعدة التَّسامح في أدلّة السّنن الّتي ناقشناها…
وفي الختام، أوجّه ندائي إلى العلماء والمؤمنين أن يعملوا على تكريس الوصيّة الخالدة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع): “أوصيكما بتقوى الله، وأن لا تبغيا الدّنيا وقولا بالحقّ واعملا للأجر، وكونا للظّالم خصماً وللمظلوم عوناً… ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم…”، حتّى ننطلق في الحكم على الأمور من خلال الأدلّة العلميّة، لا من خلال الهوى والعصبيّة.
شرح بعض المفردات:
الشَّهادة الثَّالثة في الأذان والإقامة: أي القول: أشهد أنَّ عليّاً وليّ الله .
عبادة توقيفيَّة: أي يتوقَّف العمل العباديّ الصَّحيح على حسب ما تقول الآيات أو الأحاديث، فلا تتعدّاه.
قاعدة التسامح في أدلة السنن: قاعدة فقهية قديمة تقول بالتساهل في فحص الأدلة والأحاديث المتعلقة بالأمور المستحبة ، وذلك بحجة أن الأمر لا يتعلق بتبيان الحلال والحرام .
العلّامة الشيخ ياسر عودة
المصدر: بينات