«عبّارة الموت»: بحر إندونيسيا يبتلع عشرات اللبنانيين
في الصورة – قرويون يحاولون مساعدة ناجين من الكارثة لدى وصولهم الى شاطئ اغرابينتا الاندونيسي ( أ – )
غسان ريفي
مرة جديدة، يخاطر فقراء لبنان بأرواحهم مفضلين ركوب الأمواج على البقاء في بلد يشعرهم بالغربة، ويسلب منهم كل مباهج الحياة.
مرة جديدة، يختار اللبنانيون طوعاً المجهول، هرباً من انقسام سياسي يجر بلادهم الى الهاوية، ومن خطاب طائفي مقيت وشحن مذهبي بغيض ونفق اقتصادي اجتماعي مظلم وأمن مفتوح على أسوأ الاحتمالات.
مرة جديدة، يقع اللبنانيون ضحية مافيات التهريب تأخذهم أحياء يتطلعون الى تحسين ظروف حياتهم، وترميهم جثثاً في قلب المحيطات.
القصة واحدة. من «التيتانيك» الشهيرة التي نال اللبنانيون حصتهم فيها، الى العبّارة الإندونيسية المشؤومة التي شكلت لفقراء من عكار وطرابلس جسر عبور الى القارة الأسترالية، قبل أن يبتلعهم بحر «سيانجور» ويترك وراءهم مآسيَ تدمي القلوب.
قد لا ينسى اللبنانيون مشهد أقرانهم جثثاً تتقاذفها أمواج البحر الإندونيسي، وهم لطالما ألفوا هذا المشهد لأشخاص من البلدان الأكثر فقراً يقذفون أنفسهم في البحر هرباً من المجاعة والحروب والمآسي الاجتماعية.
يطرح مشهد «عبّارة الموت» سلسلة من الأسئلة أبرزها: هل سقط لبنان الى درك تلك الدول حتى يلقي أبناؤه أنفسهم في التهلكة؟ وهل بلغنا حافة اليأس الاجتماعي والكفر بلبنان حتى يفضل الفقراء خوض غمار المجهول على البقاء فيه؟ وهل تدرك الطبقة السياسية الحال التي أوصلت إليها البلاد والعباد؟
قبعيت، مشمش، فنيدق ومجدلا في عكار ومعها طرابلس وربما مدن ومناطق أخرى، كانت، أمس، عنوان مأساة بدت معها كل العناوين السياسية تافهة.
ولعل هذه الكارثة الوطنية لفتت الأنظار الى سلسلة من عمليات تهريب تزايدت قبل نحو سنة مع تدفق النازحين السوريين الى لبنان، حيث وجدت مافيات التهريب في مصيبتهم باباً للربح، فعملت على إغرائهم بالانتقال الى أوستراليا وغيرها من البلدان هرباً من آلة النار والموت والدمار في سوريا، وذلك مقابل مبالغ مالية تتراوح ما بين سبعة الى عشرة آلاف دولار أميركي.
وسرعان ما تطورت هذه «التجارة» بفعل التداخل الاجتماعي اللبناني السوري، لا سيما في طرابلس وعكار، فتم إغراء الكثير من العائلات اللبنانية بالهجرة غير الشرعية هرباً من الواقع الاجتماعي والأمني المتردي.
وتشير مصادر مطلعة الى أن رحلات الهجرة غير الشرعية كانت تتجه الى تيمور الشرقية ومنها الى السواحل الأوسترالية، لكن حكومة تيمور توقفت عن إعطاء التأشيرات للبنانيين بعدما كشفت أن أراضيها تستغلها مافيات التهريب، فتم الانتقال الى إندونيسيا حيث تم تسيير أربع رحلات ضمت المئات من اللبنانيين والسوريين والأردنيين واليمنيين، لكن الرحلة الخامسة أمس لم يكتب لها الوصول الى شاطئ الأمان فابتلعها بحر «سيانجور».
وتقول المصادر نفسها لـ«السفير» إن عائلات لبنانية وسورية حصلت على تأشيرات رسمية الى إندونيسيا، ولدى وصولها الى جاكرتا تسلمها شخص عراقي يدعى «أبو صالح» كان سبق هذه العائلات من لبنان الى هناك، حيث وضعها في مجمع سكني لنحو شهرين ونصف الشهر، وكان يبرر هذا التأخير بأنه ينتظر الفرصة السانحة لتهريب «ضيوفه» من أعين الأمن العام الإندونيسي الذي يفرض طوقاً أمنياً حول كل الثغرات البحرية التي يتم منها التهريب الى جزيرة كريسماس الأوسترالية.
وتتابع المصادر أن العائلات خرجت باتجاه بحر «سيانجور» قبل يومين، وفوجئت بعائلات أخرى من الأردن واليمن، ورفضت بداية الإبحار في مركب بدائي صغير ليحمل نحو 120 شخصاً، لكن «أبو صالح» أبلغهم بأن هذا المركب مؤقت وسيبحر لمدة أربع ساعات فقط ثم سينقلهم الى باخرة حديثة وآمنة.
وعلى هذا الأساس، أبحرت العائلات وانتظرت ساعات طويلة في عرض البحر من دون أن تصل الباخرة الحديثة، ليضل ربان المركب الطريق وتتعطل مضخاته وتجتاحه المياه وتؤدي به شيئاً فشيئاً الى الغرق، ما اضطر الركاب الـ120 الى القفز منه، والسباحة كيلومترات عدة نحو جزيرة قريبة، ومن لم يستطع السباحة فارق الحياة، وأكثرهم من الأطفال والنساء.
وتبين أن الحصيلة اللبنانية استقرت على 17 ضحية من أصل 19 غادروا بلدة قبعيت، وأربعة من خريبة الجندي، وثلاثة من بلدتي فنيدق ومجدلا، وخمسة من باب التبانة وجوارها في طرابلس، أي 29 ضحية، يضاف إليهم عدد كبير من الأشخاص من هذه المناطق وغيرها فقد الاتصال بهم ولم يتمكن ذووهم من معرفة مصيرهم حتى ساعة متأخرة من الليل، فيما أفيد عن إنقاذ 20 لبنانيا.
من جهته، أوعز رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي الى القائمة بأعمال السفارة اللبنانية في إندونيسيا جوانا قزي بالتوجه الى المرفأ الذي انطلقت منه الباخرة لمواكبة عمليات الإنقاذ ميدانيا والاهتمام باللبنانيين الناجين، إضافة الى متابعة عملية نقل جثث اللبنانيين الذين قضوا في الحادثة الى بيروت، كما شدد ميقاتي على «ضرورة متابعة موضوع التحقيقات في الحادثة مع السلطات الاندونيسية المختصة».
وأجرى ميقاتي اتصالا بالأمين العام لوزارة الخارجية والمغتربين السفير وفيق رحيمي وطلب منه إجراء الاتصالات الديبلوماسية اللازمة في هذا الشأن، مشددا على «سرعة الاتصال بالسلطات الاندونيسية لكشف ملابسات الموضوع وتحديد مصير اللبنانيين وتأمين سلامة الناجين منهم».
وتابع وزير الخارجية عدنان منصور من نيويورك، حادث غرق المركب فأجرى اتصالا مع المدير العام للمغتربين هيثم جمعة وكلفه بمتابعة الاتصالات لهذه الغاية. كما اتصل منصور بالقائمة بالأعمال قزي واطلع منها على التفاصيل التي توافرت لديها من السلطات الاندونيسية حول الحادث.