سامي كليب
نشر هذا المقال في جريدة السفير بتاريخ 2016-10-26 على الصفحة رقم 3 – محليّات
لن تكون مفاجأة لو شاهدنا بعد فترة، السيد حسن نصرالله مستقبلا الرئيس سعد الحريري. انتهى زمن الأوهام ودخلنا مرحلة نزع الألغام. بدأت القصة في سوريا وتنتهي فيها. وما بقي من الجبهة السورية سوى شرق حلب الساقط تقريبا عسكريا بفعل الطوق والاستعدادات والمتأخر حسمه لتقليل الخسائر. لا بأس أن يُسدل الحريري الستار على 5 سنوات من الحلم بإسقاط النظام السوري، ولا بأس أيضا أن يصبح «الإرهابي» (وفق تصنيف مجلس التعاون الخليجي لـ «حزب الله») هو الراعي للتسوية السياسية الداخلية التي ستثمر انتخاب العماد ميشال عون رئيسا وقبول سعد الحريري، على مضض، رئيسا للحكومة.
هذا هو لبنان الوفي لنفسه والمتصالح مع ماضيه وحاضره. مهما بلغ حجم الأوهام والشعارات والمبادئ، يعود الجميع الى الأصل، وفي هذا الأصل، نظام طائفي مزركش بمحاصصةٍ بلغت ذروتها منذ ذاك الشيء الغريب المسمى «اتفاق الطائف» والذي طُبق منه فقط ما يخدم مصالح الطبقة الحاكمة وحاشيتها. هل أقوى من هذا النظام الذي يسمح للسلطة بطمر الشعب بالنفايات، ولن تجد معترضاً إلا ما ندر من الشعب الغفور؟ لعل الكاتب فواز طرابلسي أحسن التوصيف في كتابه «الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان» حيث وصف بدقة وأرقام ووثائق كيف أن هذه السلطة تعيد إنتاج الطوائف والطبقات.. والتوازنات.
في آذار 2012، وبعدما أصدر «تيار المستقبل» وثيقته الشهيرة حول «الربيع العربي»، قال الحريري مخاطبا «حزب الله»: «إن أصدقاء النظام السوري في لبنان يجب أن يُدركوا أن قوة الحديد والنار لن تعيد عقارب الساعة الى الوراء، النظام يستطيع أن يعيش لأسابيع عدة أو شهور لكن الشعب سيبقى الى الأبد». مذّاك، مرّ أكثر من 2010 أسابيع وليس أسابيع قليلة وبقي النظام، وها هو العالم يتكيّف مع مسألة بقاء الأسد في السلطة ويريد حماية المؤسسات السورية، وربما نسمع قربيا مديحا دوليا بالجيش السوري لضربه الإرهاب. وها هم «أصدقاء النظام السوري» يحددون في لبنان متى وكيف يتم تركيب السلطة.
نحن على أعتاب سقوط وهم «الربيع العربي». هذه هي القضية. ونحن في أوج تحولات أميركية مريبة حيال السعودية على الأرجح لدفعها أكثر صوب فتح علاقة مباشرة مع إسرائيل. ونحن خصوصا في مراحل متقدمة من الحرب الباردة الروسية الأميركية. يكشف الكاتب الجزائري الكندي أحمد بن سعادة في كتبه ومقالاته القيِّمة التي نشرها حول دور الاستخبارات العالمية في تحريك الشارع العربي، أن خسائر هائلة تكبدها العرب خلال هذا الوهم: سقوط 1.4 مليون ضحية، تشرّد 14 مليون لاجئ، خسائر مادية وعينية بقيمة 833 مليار دولار، وخسارة 130 مليون سائح سنويا.
عمل اللوبي اللبناني المقرّب من الحريري كثيرا في أميركا والغرب ضد نظام الأسد باسم «الثورة». عمل أكثر على معاقبة «حزب الله» منذ حزيران 2011 عبر ما سُمي في الكونغرس الأميركي بـ «قانون مكافحة الإرهاب الخاص بحزب الله» The Hezbollah Anti-Terrorisme Act of 2011. فُرضت عقوبات دولية على الحزب، تمت مراقبة المصارف اللبنانية، ثم تبنى مجلس التعاون الخليجي توصيف «حزب الله» بـ «منظمة إرهابية» وكذلك فعلت «جامعة الدول العربية» بضغوط خليجية. لكن ها هو الحريري نفسه يتحدث في خطابه الأخير قبل أيام عن «عدم اكتراث المجتمع الدولي»، وقد سبقه الى هذا التوصيف معظم رموز المعارضة السورية (هذا إذا بقي لها من رموز). لا بد إذاً من طي الصفحة، تماما كما فعل هو والرئيس فؤاد السنيورة قبل نحو 10 سنوات بالانفتاح على «حزب الله» وسوريا بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
كانت استراتيجية إيران و «حزب الله» منذ بداية «الربيع العربي» تذهب باتجاه آخر. القيادة الإيرانية تفاوض من موقع القوة لانتزاع اتفاق مع الغرب حول البرنامج النووي واستعادة الأموال ورفع العقوبات، و «حزب الله» يخرج، متسلّحا بالقوة ايضا، الى أبعد من الحدود اللبنانية ليصبح لاعبا إقليميا برغم كل الضجيج والضغوط. ها هو الناطق باسم الخارجية الأميركية جون كيريبي يرد على سؤال حول علاقة الجنرال عون بـ «حزب الله» قائلا: إن «حزب الله» منظمة إرهابية لكن الرئيس هو خيار الشعب اللبناني ونحن نحترم الخيار… يقول كيريبي بوضوح اذاً إن لا اعتراض أميركيا على ان يختار «حزب الله» الرئيس المقبل. اقلبوا الصفحة. المصلحة تغلب على المبادئ، هذا دأب العلاقات الدولية. أما الناس فهم بيادق.
لا شك بأن استراتيجية محور إيران ـ سوريا ـ «حزب الله» برعاية روسيا أحدثت تحولات مفصلية في المشهدين الأمني والسياسي في المنطقة، لكن ذلك لم يسمح لـ «حزب الله» بأن يُقصي الحريري أو أن يُنتج قيادياً سنياً آخر لتولي الحكومة والعودة الى توازن السلطات. هذا لأن لبنان الوفي لماضيه والمزركش بنظام طائفي لم ولن يسمح بأي خلل جوهري في مكتسبات الطوائف والمذاهب مهما تقدم طرف على آخر. ثم إن الحريري 2016 ليس الحريري 2012. سقطت الأوهام.
مع ذلك يمكن أن نُسجل فرقا جوهريا كبيرا في ما كان يحدث في لبنان وعليه، وما هو حاصل اليوم. التسويات الدولية والإقليمية سابقا، قضت على «الحركة الوطنية» وزعيمها الشهيد كمال جنبلاط بعدما كانت القوى اليسارية والوطنية قد وصلت الى عيون السيمان وكادت تسيطر على لبنان. التسويات نفسها أخرجت «منظمة التحرير» بكل جبروتها من لبنان بعدما كادت تحكمه بقيادة ياسر عرفات. التسويات ذاتها أنهت «القوات اللبنانية» وسجنت رئيسها سمير جعجع 10 سنوات. وهي التي قضت أيضا على «تمرد» الجنرال ميشال عون وأدت الى قتل الكثير من ضباطه وعسكره ونفيه هو الى فرنسا.
أما اليوم فالقوة هي التي فرضت التسويات ولم تفكك أكبر تنظيم سياسي وعسكري في لبنان، بل ضاعفت قوته. ها هو «حزب الله» يتصدر المشهد مجددا، ليس في لبنان فحسب بل في ملفات إقليمية مهمة وخطيرة. وها هو «الثائر» سعد الحريري مضطر لمجالسة «الإرهابي» لإعادة إنتاج النظام الطائفي في لبنان بصورته الحديثة. أما لماذا قبلت السعودية فعليا بتقديم تنازل كبير عبر القبول بعون، فيبدو أن تعقيدات اليمن لعبت دوراً مفصلياً في خفض الاهتمام السعودي بلبنان وإعطاء ضوء شبه أخضر للحريري للمضي في التسوية مع عون. معروفٌ أن الحزب كان قد نصح الحوثيين بعدم التوغل أكثر عند الحدود السعودية والاكتفاء بالسيطرة النارية على جيزان ونجران وغيرهما. لأن عكس ذلك كان يعني الدخول في حرب إقليمية أوسع.
ليس مهماً التركيز على من انتصر ومن هُزم في هذا الشرق، فحين تبلغ الدماء هذا الكم، وحين تغرق المدن العريقة تحت الدمار، وحين تغزو الفتن أو تكاد كل بيت ونفس، يصبح من الصعب الحديث عن منتصر ومهزوم. أما في المعادلة الاستراتيجية المتعلقة لبنان، فلا شك بأن «حزب الله» هو سيد اللعبة حاليا وأن الجميع مضطر لطرق أبوابه.
يقال إن بيئة الحريري لا تقبل. قيل أيضا إن بيئة نبيه بري تنتظر. قيل ثالثا إن بيئة وليد جنبلاط قلقة، وإن بيئة سمير جعجع تريد قطف الثمار… سيقال الكثير طبعا، لكن في لبنان، ثمة بيئة واحدة تُسلّط الأنظار عليها في الوقت الراهن، هي تلك التي لا تزال تقدم لمحور المقاومة خيرة شبابها بغية قلب المعادلات. هذه البيئة ستبقى مستهدفة مهما بلغ حجم التسويات، لأن إسرائيل ستنظر الى وصول عون الى السلطة كانتصار لـ «حزب الله»، وتدرك أن كل معارضي الحزب بلا فاعلية باستثناء بعض الاعتراض في الشمال برعاية اللواء أشرف ريفي. هذا الاعتراض في الشمال قد يكبر كثيرا أو ينتهي ما بعد الانتخابات، على ضوء ما تنتجه التسويات الإقليمية والدولية. في سوريا بدأت القصة وفيها تنتهي. أما خطر التوتير الأمني والاغتيالات، فلعله مطلوب الآن أكثر من أي وقت مضى لمنع «حزب الله» من ترسيخ دوره.
لكن السؤال المفصلي: هل عدم ممانعة «حزب الله» أن يتولى الحريري رئاسة الحكومة يعني أنه سيسهّل له المهمة. المرجّح لا.. إلا بشروط. هذا سيرتبط أولا بنتيجة مساعي «حزب الله» للتقريب بين حليفه الرئيس نبيه بري والعهد الجديد. ومن المعروف أن رئيس المجلس غاضب على الحريري ربما أكثر من غضبه على عون. كما سيرتبط ثانيا بشكل الحكومة. أما ثلاثية «الجيش والشعب والمقاومة»، فمن الطبيعي أن يكون الحريري قابلا بها لكي يصبح رئيسا للحكومة.
وفي جميع الأحوال، بعد انتخاب عون رئيسا، يصبح هامش المناورة عند رئيس الحكومة سعد الحريري أضعف، إلا إذا كان بري مرتاحا وقرر تسهيل الأمور.
يبقى أنه إذا نجحت هذه التسوية التاريخية في لبنان، فستكون نموذجاً جيدا لأول تقارب بين السنّة والشيعة في المنطقة منذ غرق الشرق بتلك البدعة المسماة فتنة. ومن يدري لعل الحريري يوماً ما يصبح الشخص المطلوب للمساهمة في تبريد بعض الجبهات الإقليمية بالتنسيق مع «حزب الله».