بوجه لم تكمل خطوط ذقنه اكتمالها، يمّم الابن الأصغر لعماد مغنية وجهه باكراً صوب الطريق الذي خطّه والده منذ ثلاثين عاماً ونيّف. لم يزدرِ الفتى الحياة، لكنه لم يترك تفاصيلها تزدري به. مسافة البحث عن عماد مغنية كانت قصيرة جداً، سبع سنوات تقريباً، لكنها كانت كافية ليجد فيه المقاومون ملامح «حاج رضوان» آخر.
إنه نسخة عن والده، يقول مقاوم عايش جهاد في السنوات الأخيرة، ولا سيما الحقبة السورية من تاريخ «المقاومة الإسلامية». أليس هناك مبالغة في ذلك؟ يردّ المقاوم: نحن لا نقول إنه عماد مغنية آخر، لكن الفطنة والذكاء والشخصية القيادية والإبداع… هي مواصفات رضوانية بامتياز. كان جهاد، برأي المقاوم الصديق، في طور التجهيز وإعداد شخصيته المقاوِمة، بدأ ذلك قبل استشهاد والده، وبعده أُتيحت له فرص لاقت مقوماته الشخصية الواعدة. تلقف الفتى صنو والده، الصديق الصدوق، الجنرال قاسم سليماني. «عمو». هكذا كانا يتخاطبان، جهاد والجنرال سليماني، قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني.
ماذا رأى الرجل في الفتى جهاد؟ يقول المقاوم: كان من الطبيعي أن يهتم سليماني بعائلة توأمه الروحي، عماد مغنية، ولكن كان يمكن لهذا الاهتمام أن يقتصر على الرعاية الأبوية، لولا أنه وجد في جهاد مميزات من المعروف أن سليماني يبحث عنها.
توّج سليماني معرفته
بجهاد بأن قال له: أريدك معي
ولذا حاول جاهداً أن يطوّرها لدى جهاد، لكي يعطي شخصيته أبعادها الحقيقية والواقعية، كلّ ذلك كان يجري بتمهل وتؤدة. تعرفون العقل الإيراني، يردف صديق جهاد. فتح سليماني أمام جهاد آفاقاً واسعة، شخصية ومعرفية. عرّفه إلى كل القيادات في الجمهورية الإسلامية، بدءاً من المرشد الأعلى، آية الله خامنئي. وتوّج معرفته به وأمله فيه بأن قال له: أريد أن تعمل معي، فسأله جهاد في أي مجال بالتحديد؟ فأجابه سليماني: سنشكّل مقاومة ضد أميركا في العالم.
كان سليماني حريصاً على تقريب جهاد إليه. هكذا أجلسه في تعازي والدته قريباً منه. بعدها بقليل بدأ الإعلام الإسرائيلي يتحدث عن جهاد بكلام، ليس من نسج الخيال، إنما بمبالغة في كثير من التفاصيل، يقول المقاوم، ولا سيما الحديث عن دوره في جبهة الجولان. يضيف محدثنا: مساهمة محور المقاومة في الجولان مختلفة عن الوضع في سوريا والعراق.
للجبهة هناك خصوصيتها التي لم تتظهّر بعد معالمها بشكل واضح، وإن كان البعد الأمني لها ساخناً بين العسكر على الأرض. هل هناك اختراق أمني أدى إلى عملية الاغتيال؟ لا أبداً، في النهاية الشباب هم ذهبوا إلى هناك، ولم يسعَ الإسرائيلي وراءهم لاغتيالهم. هذه جبهة مفتوحة على كل الاحتمالات.
هذا كان حلم جهاد، الشهادة. الفتى الذي كانت كل الإمكانيات متاحة له، مادية ومعنوية وعلمية، لم يبالِ بكلّ هذا. رسم لنفسه شخصيته الخاصة، أدرك ربما باكراً أن الإرث الوالديّ قد يتبدّد إن لم يكن حملته على قدره. شخصية محببة ينجذب إليها كل من تعرّف إليه. يتابع المقاوم: صقلت مرحلة ما بعد والده شخصيته في كثير من جوانبها. لم تكن الحياة على هامش اهتماماته. أحبّ وارتبط مرة، ولكن لم يكتب النجاح للتجربة، وكان يعد لارتباط آخر، ومنكباً على متابعة دراسته الجامعية. لعله اختار الإدارة، لما تعنيه هذه المفردة من عمق في عمل المقاومة. كان والده واحداً ممن أرسوا مفاهيم الإدارة الناجحة في العمل العسكري.
من جوانب الشبه مع والده، والتي وجدت مع جهاد بعفوية، أو فرضتها الظروف، وخصوصاً بعدما بدأ الإعلام المعادي يتداول باسمه، أنه لجأ إلى الأساليب التي اتبعها والده منذ ثلاثين عاماً. لم يعد يحمل هاتفاً، وبات يتخذ احتياطات في تنقلاته. إنه كوالده لا يريد أن يكون هدفاً سهلاً، لكنه في الوقت نفسه يتمنى الاستشهاد تتويجاً لعمله .
كان جهاد مهتماً أيضاً بالشأنين الفني والإعلامي. أنجز فيلماً عن حياة والده، متابعاً كل مراحل التنفيذ. ملماً بالتصوير والإخراج والكتابة وإجراء المقابلات. يصفه مصدر مقرّب، كان مواكباً لهذا العمل، بأنه نموذج لابن شهيد قائد. كان جهاد نسخة عن شباب اليوم مطوّرة وفق تقنيات مطلوبة، في القدرة على التواصل مع الآخر، وقدرة على تقديم رؤية حديثة جداً للمقاومة. برز ذلك عبر نشاطه في «الجامعة اللبنانية الأميركية»، حيث عمل على التواصل مع شرائح من كل المناطق اللبنانية. متوخياً اللغة السهلة والعميقة في آن، عبر الفيلم القصير والوثائقيات ولغة المدوّنات. إنها باختصار لغة عصرية للمقاومة، عمل جهاد ومجموعة من رفاقه على التخاطب بها مع الآخر في مثل أعمارهم أو من هم أكبر من ذلك.
بنظر الصديق المقرب، إن جهاد، ومجموعة كبيرة من زملائه تتابع ما بدأوه معاً، يمثلون النموذج اللبناني، المرح المقبل على الدنيا الذي يعرفه العرب والمسلمون عن الشباب اللبناني، طبعاً في حدود النموذج الإسلامي الخاص بهذه التجربة، هذا النموذج يستطيع أن يكون هكذا من الخارج، وفي الوقت نفسه، يحمل في داخله هماً بحجم الوطن وبحجم الأمة.
هكذا، فإن جهاد عماد مغنية، الفتى الذي ولد وفي فمه ملعقة عماد مغنية، كان يستطيع أن يعيش على مجد أبيه، يعمل حيث يشاء وما يشاء، إلا أنه وضع القضية نصب عينيه، وجعلها هدفاً أولاً وأخيراً. ينقل عنه صديق طفولة حسرة ظلت تلاحقه منذ نعومة أظفاره حتى استشهاد والده. يقول الصديق، عن لسان جهاد: كنت أتحسّر دائماً لأنني كنت أرى والدي في أماكن عامة، وقد أكون لم أره منذ أشهر، فلا أجرؤ على الاقتراب منه ومعانقته مثل أي ولد ووالده، حتى لا يكون ذلك سبباً في كشفه أمام المتربصين به.
لعل أمنية جهاد ظلت تلاحقه بعد استشهاد والده، فلم يمكث طويلاً ولم يكتمل حلم المتأمّلين به والمتوسمين به مقاوماً من طراز والده، فترك الفتى كل شيء وأسرع إلى عناق تمنّاه طويلاً.
المصدر: بنت جبيل