المآسي التي صنعت زينب عليها السلام

العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله٢٩/٨/١٩٩٨ / 7 جمادى الأولى 1419هـ

مع السيّدة زينب(ع) نريد أن نعيش معنى المرأة المسلمة في أرقى نماذجها، فهي ليست موضوعاً للبكاء، وإن كان في حياتها ما يبكي، ولكنَّها موضوع للانفتاح على أصالة المرأة المسلمة عندما تتجسّد إسلاماً ولا تبتعد عن إنسانيّتها في حركة هذا التّجسّد.
المأساة الأولى
فزينب(ع) في ولادتها، عاشت مع رسول الله(ص) في حنانه وعاطفته على أبناء عليّ وفاطمة(ع)، وكانت أنفاسه تتنفَّس في أنفاسها، كما كانت تتنفَّس في أنفاس أخويها الإمامين الحسنين(ع)، وعاشت طفولتها الأولى في أحضانه وفي أجوائه، كما عاشت في بيت هو بيت رسول الله(ص) في معنى الحبّ والرعاية والرّسالة والتّقوى، لأنّ بيت علي وفاطمة(ع) كان بيته، ولأنّه كان يعيش في عمق عقل علي وفاطمة، وفي نبضات قلبيهما، وفي تطلعات روحيهما، لأنهما صناعته، فلقد صنع لهما العقل بعقله، وصنع لهما القلب بقلبه، وصنع لهما خطّ السير بسيره، ولذلك اندمج عليّ وفاطمة برسول الله(ص).
وعاشت زينب(ع) في هذا الجوّ أوَّل مأساة في حياتها، حيث سمعت الصرخة في بيتها عندما فقدت رسول الله(ص)، وعاشت أحزان أمّها في مأساة فراقها لأبيها، وعاشت مأساة المسلمين عندما تعقّدت الأمور، واضطربت الأمّة، وابتعدت عن الخطّ المستقيم.
نعم، عاشت في ذلك البيت وفي تلك المرحلة، وسمعت صوتاً يهدّد ويتوعّد: “إن لم تخرجوا فسأحرق البيت عليكم ناراً. وقيل له: كيف ذلك وفيها فاطمة حبيبة رسول الله وعزيزته ووديعته؟ وارتفع الصوت ثانياً وقال: وإن”!! وربما تذكّرت زينب(ع) ذلك، وربما تعجّبت عندما بدأت تدرك الأشياء، وراحت تتساءل: كيف يهدّد مسلمٌ بيت الإسلام الأوَّل الذي تعيش فيه بضعة النبي وعزيزته وحبيبته، ويعيش فيه أخو النبي وصنوه؟! هل هي محاولة لحفظ النظام؟ ومن هو في مستوى علي وفاطمة في الإخلاص لنظام أمر المسلمين؟!
عاشت زينب ذلك الواقع، وكانت تجد أمها، وهي الناحلة الجسم المنهدّة، تخرج إلى المسجد وتخطب، وسمعت بـ(فدك)، وعرفت بوعيها بعد ذلك أنها كانت نحلة رسول الله لأمها، أو كانت إرث أمها من رسول الله(ص)، وكانت تلاحظ أمها تخرج، كما تقول السيرة، مع علي(ع)، لتتحدث مع المهاجرين والأنصار، كيف كانت تتحدّث عن الحقّ بقوة، وعن عليّ في دائرة الحقّ، لأنها سمعت رسول الله(ص) يقول: “علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار”[1].
وكانت ترى أمّها تستقبل الشَّيخين اللذين تسلّما أمر الخلافة، وكانا يسترضيانها، وكانت قد سمعت من أمّها كلاماً شديداً.
المأساة الثّانية
وكانت المأساة الثانية، وهي أنّها فقدت أمّها وهي لا تزال بحاجة إلى حضن الأمومة ليضمّها ويرعاها، وعاشت مع أبيها وتعلّمت منه الكثير؛ تعلّمت منه في أوَّل تجربة للصّراع كانت تعيشها آنذاك، كيف جمّد حقّه من أجل حقّ الإسلام، فكانت تسمعه يقول: “لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة”[2].
وعرفت كيف انفتح أبوها على الإسلام وعلى المسلمين، حتى من خلال الَّذين تقدّموه في الخلافة، لأنَّ علياً لم يكن يعيش في دائرة ضيّقة، بل كان يرى نفسه مسؤولاً عن حماية الإسلام ورعاية أمور المسلمين خارج الخلافة، كما هو مسؤول عن ذلك داخل الخلافة…
وعاشت النّموّ من خلال الأحداث، فراح ينمو عقلها، ويكبر قلبها، وتتطلَّع إلى الواقع بعينين فيهما الكثير من الوعي، ورأت كيف عاش المسلمون آنذاك بين صرخاتٍ للجهاد وللفتح في الخارج، وصرخاتٍ للفتنة والانحراف في الداخل، حتى إذا جاء الأمر إلى أبيها، رأت أباها وهو يريد أن ينفّذ مشروعه في الإسلام الأصيل الذي كان أوَّل إنسان بعد رسول الله(ص) فتح عليه عينيه، وكان المجاهد في سبيله والمعلّم لكل أحكامه.. رأت كيف اجتمع الناكثون والقاسطون والمارقون ليعطّلوا خطّته، وأرادوا منه أن يلعب مع اللاعبين ويخوض مع الخائضين، وأرادوا منه أن يمارس الحيلة هنا والمكر هناك، بأن يكذب ويغدر ويفجر، ولكنه قال: “قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين”[3]، وكان يقول: “والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس”[4]، وكان يقول للناس: “وليس أمري وأمركم واحداً، إنني أريدكم لله وأنتم تريدونني لأنفسكم”[5].
رأت زينب(ع) ذلك كلّه، وعرفت أنَّ الذي يقود المسلمين لا بدّ من أن يفكّر في الله، وأن يربط الناس بالله وبرسالة الله وبشرع الله وبالخطط التي يحبّها الله، ورأت أباها كيف عاش المأساة في حكمه، كما عاش المأساة خارج حكمه، حتى كان يقول: “ما ترك لي الحق من صاحب”، كما كان يقول للذين معه: “لوددت والله أنَّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم”[6]، والدينار عشرة دراهم، وكان يقول: “لقد أفسدتم عليّ رأيي”[7].
عاشت زينب ذلك كلّه، واختزنت فكر عليّ(ع) في فكرها، لأنها كانت تلميذة عليّ(ع)، لم تفارقه في المدينة، ولم تفارقه في الكوفة، حتى أغمض عينيه على الشَّهادة، وبذلك نعرف أنَّ الفرصة لم تتح لزينب(ع) في أن تتعلّم الكثير شفاهاً من جدّها وأمها، حتى واتتها الفرصة لتتعلَّم الكثير من أبيها علي(ع).
كبرت في عمره وعمرها معه، ونحن نعرف ـ أيها الأحبَّة ـ كيف يكون عقل من كان تلميذ عليّ، وكيف يكون قلب من كانت نبضاته هي نبضات قلب عليّ، وكيف يمسك الحقّ بكيانه كلّه من عاش الحقّ مع علي، ورأى كيف يؤكّد عليّ الحقّ.
المأساة الثالثة
وكانت المأساة الثالثة، عندما جيء بأبيها صريعاً والدّماء تسيل من رأسه الشريف، وكانت تجتمع إلى أبيها، ويكبر أبوها في عينها أكثر مما كان كبيراً، عندما تراه وهو ينزف، والسم يسري في بدنه، والحياة تذوب من جسده شيئاً فشيئاً، يلتفت إلى من حوله قائلاً: “سلوني قبل أن تفقدوني”[8]، فما زال في العمر بقية، وقد عشت عمري من أجل أن أعطي الناس حقهم في العقيدة وفي الشريعة وفي حركة الحياة، فلا أحبّ أن ألقى ربي إلا وأنا أعلّم الناس إسلامهم قبل أن ألفظ أنفاسي، ليراني الله معلّماً وأنا على فراش الموت.
اختزنت زينب(ع) ذلك كلّه في شخصيَّتها، وعاشت المرحلة الجديدة مع أخيها الحسن، وكانت رفيقة الحسن والحسين(ع) في مسيرتهما مع أبيهما، لأنها كانت التلميذة الثالثة معهما، كانت تتعلّم مع الحسن والحسين، وكانت تسمع من جدّها أو عن جدّها قوله: “الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة”[9]، ولذلك عاشت معهما بكلّ محبّة واحترام واندفاع من أجل أن يكونا القدوة لها.. وعاشت مع الإمام الحسن(ع)، ورأت كيف ورث جيشاً ممزّق الاتجاهات متنوِّع الأفكار، ورأت كيف عاش الحسن مأساته مع جيشه كما عاش مأساته فيما بعد الصّلح، وقد قال لأصحابه حينما قالوا له: “ما كنت مذلّهم، بل أنا معزّ المؤمنين، وإنَّما أردت البقاء عليهم”[10]، لقد أردت مصلحة المسلمين في ذلك.
المأساة الرابعة
وعاشت المأساة الرّابعة عندما رأت أخاها الحسن(ع) وهو يتجرَّع السمّ وينتقل إلى رحاب ربّه مسموماً، وكانت ترى كيف أنّه مُنِعَ من أن يُدفن عند جدّه، بل ربما منع من زيارة قبر جدّه.
وانطلقت مع الحسين(ع)، وكان ترى فيه أباها وأمّها وأخاها، ولذلك عندما نعى الحسين نفسه ـ كما سيأتيكم في الحديث عن عاطفتها ـ قلت: ” اليوم ماتت أمّي فاطمة وأبي عليّ وأخي الحسن”[11]، فلقد اعتبرت أنَّ كلّهم كان حسيناً، ولذلك شعرت عندما فقدت الحسين، بأنها فقدت هؤلاء الكبار جميعاً.
وعاشت مع الحسين(ع)، ونحن نعرف أنَّ علاقتها به كانت فوق علاقتها مع النّاس، ولذلك عندما أطلق نداء نهضته، استأذنت زوجها وتركته، وسارت مع الحسين، وأخذت ولديها معها وهي تتحسَّس الخطر هناك.
المأساة الخامسة
وهكذا عاشت مع الحسين(ع)، وواجهت المأساة الخامسة، فإذا قلنا عنها إنها “أمّ المصائب”، فإنّنا نجد أنَّ حركة المصائب انطلقت منذ طفولتها حتى كهولتها، وكانت مصائب معقَّدة تتحرك في أجواء عاشها المسلمون بطريقةٍ فيها الكثير من أوضاع الفتنة وأوضاع الحرب، وفيها الكثير مما عاشه المسلمون في تعقيدات لا يزال تأثيرها سلبيّاً في واقع المسلمين حتى الآن.
هذه هي صورة ولادة زينب(ع) ونشأتها فيما نستوحيه من حياتها من هذا البيت الَّذي أذهب الله عنه الرّجس وطهّر أهله تطهيراً.
العاطفة الزينبيَّة
ونأتي بعد ذلك إلى زينب في موقع العاطفة، وفي صلابة الموقف، وإذ نثير هذين الخطين في حياتها، فلكي نستفيد من حقيقة إنسانيَّة فيما يريده الإسلام للمرأة المسلمة، فالإسلام لا يريد للمرأة المسلمة، كما لا يريد للرجل المسلم، أن يخنق الجانب العاطفيّ من شخصيته، والله لا يريد للإنسان أن يكون قاسي القلب، وقد حدثنا تعالى عن القاسية قلوبهم في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}[12]، أو عن الذين {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}[13].
إنَّ الله لا يحبّ من كان قاسي القلب ويحبّ القلب الرّقيق، وقد كان سيّد البشر رسول الله(ص) الأنموذج الأكمل للين القلب ولين اللّسان: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[14]، وقد كان رسول الله(ص) يعيش بكلِّ قلبه وعاطفته مع المسلمين من حوله: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[15].
فكُن الإنسان الَّذي تفيض عاطفته من قلبه وتتحرّك في علاقته بالمأساة، ولا سيّما إذا كانت المأساة تهزّ القلب والكيان كلّه، ولذلك لم يعب السيّدة زينب(ع) أنها بكت في كربلاء، وأنها بكت وهي الصّامدة الصّلبة، حتى إذا انتهت واقعة الطّفّ بقيادة الإمام الحسين(ع)، جمّدت زينب(ع) هذا الفيضان العاطفي في حركتها في الخارج، لتعيش في قلبها حزناً كأعمق ما يكون الحزن، ولكنّها كانت في مسؤوليَّتها إنسانة واعية في خطِّ قيادة المرحلة كأقوى ما يكون الإنسان، كانت امرأة في مستوى صلابتها.
نماذج من عاطفة زينب(ع)
لنقرأ بعض الجانب العاطفي في شخصيَّتها، ولو بشكلٍ سريعٍ جدّاً:
قال المفيد: “قال عليّ بن الحسين(ع): إنّي لجالسفي تلك العشيّة الّتي قتل أبي في صبيحتها (صبيحة التّاسع من محرّم)،وعندي عمّتي زينب تمرضني، إذ اعتزل أبي في خباءٍ له، وعنده جوين مولى أبي ذرّ الغفاري، وهو ـ أي جوين ـ يعالج سيفه ويصلحه، وأبي يقول:
يا دهرُ أفٍّ لك من خليلِ كم لك بالإشراقِ والأصيل
من صاحب أو طالب قتيل والدّهرُ لا يقنعُ بالبديل
وإنّما الأمر إلى الجليل وكلُّ حيٍّ سالكٌ سبيلي
فأعادها مرّتين أو ثلاثاً حتى فهمتها وعرفت ما أراد، فخنقتني العبرة، فرددتها ولزمت السكوت، وعلمت أنَّ البلاء قد نزل.
وأمّا عمّتي، فإنّها لما سمعت، وهي امرأة، ومن شأن النساء الرقة والجزع، فلم تملك نفسها أن وثبت تجرّ ثوبها وإنّها لحاسرة، حتى انتهت إليه، فقالت: وا ثكلاه، ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم ماتت أمّي فاطمة وأبي علي وأخي الحسن، يا خليفة الماضي وثمال الباقي.
فنظر إليها الحسين(ع) فقال لها، يا أخيَّة، لا يذهبنَّ بحلمك الشيطان، وترقرقت عيناه بالدّموع، وقال: لو ترك القطا لنام. فقالت: يا ويلتاه، أفتغتصب نفسك اغتصاباً، فذلك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي، ثم لطمت وجهها، وأهوت إلى جيبها فشقَّته، وخرّت مغشيّاً عليها، فقام إليها الحسين(ع)، فصبّ على وجهها الماء، وقال لها: يا أختاه، اتّقي الله، وتعزّي بعزاء الله، واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون وأهل السّماء لا يبقون، وأنّ كلّ شيء هالك إلا وجه الله… فعزّاها بهذا ونحوه، وقال لها: يا أخيّة، إن أقسمت عليك فأبرّي قسمي، لا تشقّي عليَّ جيباً، ولا تخمشي عليَّ وجهاً، ولا تدعي عليَّ بالويل والثبور إذا أنا هلكت، ثم جاء بها حتى أجلسها عندي”[16].
هذه القصَّة هي قمَّة التّوتّر العاطفيّ الصّارخ عند زينب(ع)، ولم يحدث بعد ذلك حالة مماثلة، حتى ما يرويه الرواة بأنها فعلت ذلك في مجلس يزيد عندما بدأ ينكث ثنايا الحسين(ع) بالقضيب بيده، لأنَّ الرواية الموجودة ليست في مستوى الوثاقة، ونحن نؤكِّد ذلك، لأنَّ الحسين أقسم عليها، وطلب منها أن تبرّ قسمه، وكانت زينب في أعلى درجات الوعي والعقل وهي في مجلس يزيد، فلا يمكن أن تحنث بالقسم الّذي تحوّل إلى عهدٍ بينها وبين الحسين(ع)، مع أنّ الرّواية لا تنسجم مع جلالة قدر زينب وصمودها وصبرها، وبخاصّة أنها كانت تعمل على أن تجسِّد هذا العنفوان الذي تمثّلت به عندما قالت ليزيد: “إني لأستصغر قدرك”[17] وعندما قالت له: “فكِد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا”[18]، هذا العنفوان ـ مضافاً إلى العهد الّذي أعطته للإمام الحسين ـ يبعد أن تكون زينب(ع) فعلت ذلك، وإن كانت المصيبة مهولة، بحيث يمكن أن تفتِّت الصّخر.
وأمّا الموقف الثاني، فقد جاء أنّه: “لما قتل عليّ بن الحسين الأكبر، خرجت زينب أخت الحسين مسرعةً تنادي: يا حبيباه ويا ابن أخاه. وجاءت حتى انكبّت عليه، فأخّرها الحسين فردّها إلى الفسطاط”.
وهذا الموقف عاطفيّ أيضاً، فلقد كانت تحبّ عليّ الأكبر حبّاً شديداً، لأنه كان في مستوى الحبّ من خلال وعيه وورعه وقوّته وصلابته، ويقول بعض المحلّلين إنَّها لم تندفع تلقائيّاً على أساس عاطفيّ، ولكنّها أرادت أن تحتوي حزن الحسين(ع) الَّذي بلغ حدّاً كبيراً، حتى قال: “على الدّنيا بعدك العفا”[19].. فهي أرادت أن تحتوي حزن الحسين عندما حاولت أن تشغله بها، وقد يكون ذلك صحيحاً في التّحليل.
وينقل أنها عند مقتل الحسين(ع)، وقفت وبكت، وتحدَّثت بحديثٍ فيه الكثير من العاطفة، وقالت لعمر بن سعد وهي توبّخه: “أيُقتل أبو عبد الله وأنت تنظر إليه؟”[20].
وعندما مرّوا بها على الجسد ـ أثناء الرّحيل ـ بكت أيضاً وتحدَّثت، وهذه هي المواقع الّتي يمكن أن نجد فيها روايات موثوقة لحزن زينب(ع)، مما ينقله (الشيخ المفيد) و(ابن طاووس).
مرحلة التحدّي
أمّا عندما انتهت هذه المرحلة، وبدأت مرحلة الكوفة، وكانت مرحلة التحدّي، وقفت وتحدّت (ابن زياد) بطريقةٍ شعر فيها بأنَّ عليه أن يقتلها لولا أنّ أحد أصحابه صرفه عن ذلك.
وهكذا عندما أراد أن يقتل عليّ بن الحسين(ع) عندما قال له: “أبِكَ جرأة عليّ؟” عند ذلك أمر بأن يُضرب عنقه، فوقفت زينب(ع) وقالت: “يابن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه”، تعجّب ابن زياد من موقفها وقال: “عجباً للرّحم، والله إني لأظنّها ودّت أني قتلتها معه”[21].
هكذا وقفت بكلّ صلابة، وتحدَّت ابن زياد، ودافعت عن الإمام زين العابدين(ع) في هذا المجال.
لذلك، فإنَّني أحبّ أن أركّز على أنَّ الأسلوب الَّذي يدرج عليه كثير من الخطباء في تصوير زينب(ع) كامرأة باكية من موقع إلى موقع، بحيث لا يشعر الإنسان بأنَّه أمام تلك الشّخصيّة التي أعطت العنفوان الإسلاميّ قوّة، وأعطت معنى الصّبر الكثير من معنى التحدّي للحزن، هو أسلوب لا ينسجم وحركتها في خطِّ المأساة، وإنني أرى أنَّ هناك فرقاً بين أن تقول إنَّ زينب(ع) عاشت العاطفة وعبّرت عنها في كربلاء، وأن تقول إنها كانت باكية نائحة في كلّ فصول كربلاء، إذ لم تكن زينب(ع) مجرّد نائحة تنتقل من جسدٍ إلى جسد، ومن موقعٍ إلى موقع، لأنَّ زينب كانت مشغولةً بالحسين(ع) وبإدارة الواقع كلّه، ولا سيّما الواقع النسويّ وواقع الأطفال، الّذي كان الحسين وأصحابه وأهل بيته في شغل عنه.
وكانت تراقب حركة الحسين(ع)، ولم يكن عندها في هذه السّويعات من الصباح إلى ما بعد الظهر وقت لأن تبكي بالطَّريقة التي تذكر، فلقد كانت ترافق الحسين(ع) وتلاحقه، لأنها كانت تعيش عمق معناه في شخصيّتها، وكانت تعيش حركيّة المعركة بكلّ دقائقها. ولقد قالت ـ كما جاء في بعض الروايات، وهي تضع يديها تحت جسد الحسين(ع): “اللّهمّ تقبّل منّا هذا القربان”[22]، ومعنى ذلك أنَّ زينب(ع) كانت تعي معنى المعركة ومعنى القربان الإلهيّ الَّذي يقدّم في المعركة من أجل رضا الله ومن أجل الجهاد في سبيل الله.
لقد عاشت زينب العنصر العاطفيّ، ولكنَّه لم يسقطها فيجعلها مجرَّد نائحة، لقد كانت صابرةً في حزنها، وكان حزنها حزناً مميَّزاً في أنَّها كانت تختار للتَّعبير عنه المفاصل الّتي كانت القضيَّة تحتاجها آنذاك.
صلابة الموقف
أمَّا صلابة موقفها، فقد تمثَّلت في خطابها لأهل الكوفة، وفي محاورتها الشَّديدة القاسية لابن زياد، وفي خطبتها القويَّة الواعية المثقَّفة الواقعيَّة المنفتحة على كثيرٍ من دقائق القرآن الكريم وحركيَّته في الواقع، عندما كانت تستشهد بآيات الله سبحانه وتعالى.
وفي نهاية المطاف، أذكر لكم هذه القصَّة في مجلس يزيد، والّتي بيَّنت عظمة زينب(ع) في صلابة الموقف، وفي تأكيدها الخطَّ الإسلاميَّ حتى في أصغر حكم شرعيّ. قالت فاطمة بنت الحسين ـ كما يروي المفيد في الإرشاد ـ “ولمَّا جلسنا بين يدي يزيد رقَّ لنا، فقام إليه رجل من أهل الشَّام أحمر، فقال: يا أمير المؤمنين، هب لي هذه الجارية ـ يعنيني ـ وكنت جارية وضيئةً، فأرعدت وظننت أنّ ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب، وكانت تعلم أنّ ذلك لا يكون… فقالت عمّتي للشّامي: كذبت والله ولؤمت، والله ما كان ذلك لك ولا له. فغضب يزيد وقال: كذبتِ والله، إنّ ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت، قالت: كلاّ. والله ما جعل الله لك ذلك إلا أن تخرج من ملّتنا وتدين بغيرها”، لأنّ الإسلام لا يجوّز لمسلم أن يسترقّ مسلمة، “فاستطار يزيد غضباً، وقال: إيّاي تستقبلين بهذا؟ إنّما خرج من الدين أبوكِ وأخوكِ. قالت زينب: بدين الله ودين أبي ودين أخي اهتديت أنت وأبوك وجدّك إن كنت مسلماً، قال: كذبتِ يا عدوّة الله. قالت: أنت أميرٌ تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، فكأنّه استحيا وسكت”[23]، لأنها خاطبته بالحجَّة وخاطبها بالعدوان.
هذا الموقف ـ أيها الأحبة ـ يمثل الموقف الزينبيّ الّذي يواجه السّلطان الذي يملك الواقع كلّه آنذاك، ويمثّل الخطاب الإسلاميّ الصّلب الذي يقول إنّ للإسلام حدوده، وإنك إذا كنت تتجاوز هذه الحدود، فأنت تخرج من الإسلام، وتعرّفه أنَّ الإسلام هو ملّتنا، لا من الناحية الشخصية، فالإسلام دين الله، بل أرادت أن تقول ليزيد، يا يزيد إنَّ الله أوحى بالإسلام في بيت رسول الله(ص)، وهو جدنا، ونحن عشنا الإسلام ورضعناه وترعرعنا في أحضان رسول الله وفي أجوائه.. ولذلك، إذا كنت مسلماً، فإن إسلامك انطلق من هذا البيت، ولكنك لم تحترم هذا البيت، بل اضطهدته بالرّغم من أن هذا البيت لا يزال يمثل القيادة الإسلامية في كلّ معناها وطهرها وصفائها.
لنرتفع إلى مستوى زينب(ع)
أيّها الأحبَّة، في ذكرى ولادة السيِّدة زينب(ع)، علينا أن نرتفع إلى هذا المستوى الّذي يمثِّل هذه المرأة المسلمة الصَّابرة الواعية المتحدِّية القويّة الّتي أعطتنا شرعيَّة أن تقف المرأة المسلمة لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في مجتمع الرِّجال، ولتتحرّك من الموقع السّياسيّ فيما إذا كان للواقع السّياسيّ معنى هناك.. وإنما أخذت زينب(ع) الشّرعيَّة في موقفها هذا من الخطِّ الإسلاميّ الأصيل الّذي تجسّد في أمّها فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين(ع)، عندما وقفت خطيبةً في مسجد رسول الله(ص)، وعندما راحت تتحدَّث مع رجال المهاجرين والأنصار.
إنّها أعطت شرعيَّة ذلك للمرأة التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر في الخطِّ الأخلاقيّ للإسلام، وفي الجانب الاجتماعيّ والثقافيّ والسياسيّ، ولم يكن كلام زينب اضطراراً، ولكنّه كان اختياراً، من خلال ما كانت تشعر بأنّه مسؤوليّتها الشّرعيّة في أن تقف ضدّ الظالم هنا والطاغية هناك، وضدّ المنحرفين بين هذا وذاك.
في مولد زينب(ع)، نكبر كثيراً، ونعي كثيراً، ونحصل على أكثر من درس، لذلك أقول لكم ـ أيّها الأحبّة ـ عندما تدخلون حرم السيّدة زينب وتزورونها، عليكم أن تعيشوا مثل هذه الأجواء، بأن تتمثَّلوها في كربلاء، وأن تتمثَّلوها في الكوفة وفي الشَّام، كيف انطلقت، وكيف تحدَّت، وكيف وعظت، وكيف تحرّكت.. فهذا هو معنى الزّيارة، فليست الزيارة كلمات تقولها دون معنى، ولكنَّها وعي جديد تعيشه وقدوة تتحرَّك بها.
 *ندوة الشّام الأسبوعيّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 7 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق: 29 – 8 – 1998م.

[1] بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 28، ص 368.

[2] نهج البلاغة، خطب الإمام علي(ع)، ج 1، ص 125.

[3] المصدر نفسه، ج 1، ص 93.

[4] المصدر نفسه، ج 2، ص 180.

[5] المصدر نفسه، ج 2، ص 19.

[6] المصدر نفسه، ج 1، ص 189.

[7] بحار الأنوار، ج 34، ص 143.

[8] نهج البلاغة، ج 2، ص 130.

[9] بحار الأنوار، ج 22، ص 279.

[10] دلائل الإمامة، الطبري، ص 167.

[11] الإرشاد، الشيخ المفيد، ج 2، ص 93.

[12] [البقرة: 74].

[13] [الحديد: 16].

[14] [آل عمران: 159].

[15] [التوبة: 128].

[16] الإرشاد، ج 2، ص 93، 94.

[17] بحار الأنوار، ج 45، ص 135.

[18] المصدر نفسه، ج 45، ص 135.

[19] المصدر نفسه، ج 45، ص 65.

[20] المصدر نفسه، ج 45، ص 56.

[21] المصدر نفسه، ج 45، ص 118.

[22] حياة الإمام الحسين(ع)، الشيخ باقر شريف القرشي، ج 2، ص 302.

[23] بحار الأنوار، ج 45، ص 136.

المصدر: بينات

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …