الفاتيكان: البابا يحمي المسيحيين

أعلمَ الحبر الأعظم البابا فرنسيس بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للموارنة بشارة الراعي منذ نحو أربعة أشهر أنّ كلّ الدلائل تشير إلى قرار دولي باقتلاع المسيحيين من الشرق، وانّ بقاء مسيحيّي لبنان رهن ببقاء مسيحيّي سورية الموحدة من دون تقسيم وعلمانية. كان رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون أول من استدرك من القادة «المسيحيين» انخراط المجموعات الإرهابية في مخطط يستهدف الأقليات عموماً والمسيحيين خصوصاً في سورية، تمهيداً لاستهدافهم في لبنان. وأعلن تأييده لما تقوم به المقاومة في محاربة الإرهاربيين التكفيريين في القصيْر والقلمون، وتأكيده العلاقة التكاملية مع حزب الله.
ويعتبر بعض الدول الغربية الحريصة على الوجود المسيحي في الشرق، وفق ما سرّب من الدوائر الاسبانية، أنّ قتال حزب الله في سورية وعلى الحدود الشرقية يساهم في الحفاظ على الوجود المسيحي المهدّد في سورية ولبنان، وتبدي تلك الدول تأييداً للدور الذي قام به، على رغم امتعاض فرنسا من دوره.
لم تسنح الفرصة بعد للقاء يجمع بين حزب الله وبابا روما للوقوف على رأي الفاتيكان. لم تُحدّد أيّ زيارة خاصة لوفد من حزب الله الى الفاتيكان منذ انتخاب البابا في عام 2013. العلاقة بين الضاحية الجنوبية لبيروت والفاتيكان لا تزال في بداياتها وليست على وتيرة عالية.
يرغب حزب الله في توطيد العلاقة مع الفاتيكان، فهناك عامل أساس أصبحت العلاقة في ظله بين الطرفين أكثر أهمية وأكثر ضرورة من قبل، وهو التيارات الإرهابية التكفيرية التي تستهدف الجميع بمن فيهم المسيحيون في الشرق، فضلاً عن المواقف المهمة التي صدرت من الكرسي الرسولي حول فلسطين وضدّ «إسرائيل».
وهنا يأتي التقاطع والتلاقي المهمان في مواجهة الخطر الوجودي على المسيحيين والمسلمين معاً، ودور حزب الله في مواجهته دفاعاً عن المنطقة وعن المشروع المقاوم وعن المسلمين والمسيحيين، والفاتيكان ضمناً يتحدث عن دور حزب الله الكبير في حماية المسيحيين. وعندما قال البطريرك الماروني «لولا حزب الله لوصل التكفيريون إلى جونية»، لم يقل ذلك من قرارة نفسه، إنما سمع هذا الكلام في الدوائر الفاتيكانية.
ويعقد في الأيام القليلة المقبلة لقاء بين السفير البابوي في لبنان غبريال كاتشيا ونائب رئيس المجلس السياسي في حزب الله محمود قماطي المكلف متابعة ملف الحوار مع الأحزاب المسيحية، استكمالاً لما أنجز سابقاً بين الطرفين، بخاصة في ظلّ المبادرة الفاتيكانية الأخيرة التي قام بها المبعوث الفاتيكاني الكاردينال دومينيك مامبرتي في ما يتعلق بالوضع السياسي وتطوير الطائف والاستحقاق الرئاسي.
مع العلم أنّ العلاقة بين حزب الله وبابا روما بدأت من خلال تواصل كاتشيا مع مسؤولي حزب الله، لا سيما قماطي وعضو المجلس السياسي غالب أبو زينب ومسؤول العلاقات الدولية عمار الموسوي ومشاركة وفود من كتلة الوفاء للمقاومة في احتفالات أقيمت في روما ضمن الوفود اللبنانية المتواجدة هناك. إلا أنّ هذه العلاقات لم تتوطد كما ينبغي، وإنْ كان حزب الله لا يرى مانعاً من ذلك، فالفرص في السابق لم تسنح بتوطيد العلاقة بين الفاتيكان والضاحية، وإنْ كان هناك أصدقاء مشتركون ينقلون الصورة والآراء من وقت إلى آخر بين الطرفين.
وتستشعر الكنيسة المارونية الخطر التكفيري. الخطر الوجودي الداهم على لبنان جراء الإرهاب التكفيري الذي يثير قلقها كما يقلق حزب الله، فموجات العنف والتطرف لم ولن توفر أياً من الطوائف والمذاهب، خصوصاً المسيحيين الذين تعرّضوا في سورية والعراق الى ملاحقة وقهر وتهجير.
تدعو بكركي إلى الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب والى التعايش بين الأديان. وتستطيع وفق حزب الله أن تلعب دوراً مهماً وأساسياً في هذا المجال.
تؤيد بكركي بقوة في الجلسات الخاصة مشاركة حزب الله في الحرب ضدّ الارهابيين التكفيريين في سورية وفي السلسلة الشرقية. لا يعلن بطريرك الموارنة جهاراً تأييده لحزب الله. يتجنّب الإحراج مع الخارج الاقليمي المعادي لحزب الله ومع الداخل المناوئ له أيضاً، ويفضل أن يبقى الدعم ضمناً ولا يخرج الى العلن، على رغم الدعم الذي تلمسه القيادات السياسية في حزب الله في مختلف المناطق اللبنانية التي يتواصل فيها مسؤولوه مع فاعليات بكركي من مطارنة وآباء.
يؤكد حزب الله أنّ العلاقة مع بكركي ممتازة وجيدة وهي في أفضل حالاتها وأهمّ من كلّ الفترات السابقة. المنطقة تمرّ وخصوصاً المسيحيين في الشرق بأفظع الأخطار، وهذا يستدعي تلاحماً قومياً ووطنياً، وحزب الله يقوم بهذا الدور، وبكركي تقدّر له ذلك. فبعد أن أعلن البطريرك الماروني أنّ سلاح المقاومة مبرّر وجوده لأنّ «إسرائيل» لا تزال تحتلّ أراضي لبنانية وعدوانها مستمرّ، بات الراعي يبرّر وجود المقاومة على الحدود الشرقية مع سورية لقتال المجموعات الإرهابية التكفيرية التي لا تقلّ خطراً عن الإرهاب «الاسرائيلي»، خصوصاً في ضوء ما جرى للمسيحيين والايزيديين الذين خرجوا من بيوتهم على يد تنظيم «داعش» ومنظمات إرهابية أخرى من الموصل ونينوى وصولاً إلى معلولا.
مرّت العلاقة بينهما بتقلّبات، لكنها تطوّرت ونمت وأصبحت فاعلة منذ انتخاب البطريرك الراعي الذي أرست مواقفه وتصريحاته عن مصير الأقليات والأزمة السورية اتفاقاً حول الكثير من الملفات والمواضيع، بعدما كانت تتفاوت بين السلبية والإيجابية في أيام البطريرك الكاردينال نصر الله صفير، والخضة الوحيدة التي أحدثتها زيارة الراعي الى فلسطين المحتلة، لم تؤثر في علاقة بكركي – حارة حريك، على رغم أنّ حزب الله أبلغ البطريرك موقفه من الزيارة.
يقلق الفراغ الرئاسي بطريرك الموارنة، ويرى أنّ على حزب الله ان يدفع أكثر لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، وبأيّ شكل من الأشكال. لا يضع سيد الصرح «فيتو» على ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة في حال تمّ التوافق على اسمه بين المكوّنات السياسية، لكن طالما انّ الاتصالات لانتخابه رئيساً لم تتوصل الى نتيجة في هذا الشأن، فهو يتمنّى على حزب الله ان يقنع جنرال الرابية بالعدول عن الفكرة، لكن السيد حسن نصر الله بمنأى عن ذلك لاعتبارات استراتيجية وأخلاقية، فهو يؤكد تمسكه بالعماد عون مرشحاً لرئاسة الجمهورية، ولن يقبل باسم آخر إلا بمن يسمّيه الجنرال، في حال ارتأى الانسحاب.
تضع لجنة الحوار بين حزب الله وبكركي الاستحقاق الرئاسي بنداً أول وثابتاً على جدول أعمالها. تجتمع هذه اللجنة التي تتألف من النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم والأمير حارث شهاب عن البطريركية المارونية، وعن حزب الله عضو مجلسه السياسي الحاج محمود قماطي والحاج مصطفى الحاج علي، بانتظام مرة كلّ شهر، تارة في الصرح البطريركي وتارة أخرى في الضاحية، وقد فعّلت دورها وحضورها في الآونة الأخيرة، لإيجاد مخارج وحلول للأزمات العالقة والاستحقاقات الداهمة في ظلّ تداعيات الأحداث في سورية وخطورة التطورات في المنطقة والنار التي تحيط بنا.
يلتقي حزب الله والبطريرك الماروني في النظرة إلى ملف الطائف. تعتبر بكركي أنّ هذا الاتفاق مدخل لحلّ الأزمة ويمكن تعديله، وانّ المسيحيين يجب أن يكونوا شريكاً ميثاقياً ووطنياً في معادلة الطائف، وهذا يتطلب تصحيحاً لوثيقة الوفاق الوطني التي صدرت عن اتفاق الطائف. يترافق ذلك مع موقف الفاتيكان من استمزاج آراء اللبنانيين من مدى التجاوب مع تطوير الطائف الذي أتى في ظروف تختلف عن الظرف الحالي.
عندما يطرح البطريرك الماروني عقداً اجتماعياً، يعني ذلك انه يجب البحث عن أهمّ من الطائف. والوفد الذي زار السيد نصر الله بتكليف من الراعي بعد نحو شهر من انتخابه وضم المطران بولس مطر والمطران مظلوم والأمير شهاب، وطرحه فكرة عقد اجتماعي جديد بين اللبنانيين لإخراج لبنان من أزمته، مؤشر إلى «أنّ الأمور بين الطرفين وصلت إلى مرحلة متقدّمة في التباحث والتداول في مصير لبنان وحمايته، الا ان كل ذلك ينتظر لقاء القمة بين الراعي ونصر الله الذي كاد ان يحصل سواء في الضاحية أو في بكركي لولا الأسباب والظروف الأمنية التي ساهمت في تأجيله لاختيار المكان والتوقيت المناسبين والآلية المناسبة، والذي لا يزال مرهوناً ومحكوماً بالخطر الأمني والتدابير الأمنية فقط، مع تأكيد الرجلين استعدادهما للقاء.
في المقابل يختلف حزب الله مع بكركي في بند إلغاء الطائفية السياسية، ويدعو حزب الله الى إلغائها، في حين أنّ البطريركية المارونية ترى انّ هذا الأمر من السابق لأوانه وينبغي ان يأخذ مزيداً من الوقت لكي ينضج أكثر، على رغم أنها تؤكد في وثيقتها السياسية «أنّ الدولة المنشودة هي دولة تفصل بين الدين والدولة بدلاً من اختزال الدين في السياسة او تأسيس السياسة على منطلقات دينية لها صفة المطلق».

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …