بنت جبيل تلبس ثوب عرسها
بقلم : عابد عبيد الزريعي
abed@topnet.tn
يوم التاسع عشر من أغسطس من العام ستة وألفين ، استيقظت بنت جبيل قبل طلوع الشمس واستعدت لزفاف شهدائها . اغتسلت بالندى ، تضمخت بشقائق النعمان ، وسرحت شعرها بمشط رصاص ، كان أحد أبنائها قد اصطاد به من جنود الغزاة ما يساوي عدد أسنانه ، ثم لبست ثوب عرسها الذي صار فيه اسمها ” عروس الجليل ” ، وتقلدت السيف الذي كان هدية لها من فرسان جبل عامل ، وانتعلت حذاءا صنعته من بقايا إحدى الميركافات اللواتي لعب عليهن شباب المقاومة فأصبحت سيرتهن على كل لسان .
وخرجت للناس الذين وقفوا مبهوتين أمام روعة طلعتها ، التي بدت كما سمعوا من آبائهم عن آبائهم وعن آباء آبائهم ، قبل ان يصير لها أولاد وأحفاد ويصير اسمها “سيدة جبل عامل “. وقفت أمامهم صبية عفية ، تأملت وجوههم للحظة ، وأومأت إلى ” كامل بزي ” الذي قال للناس بلسانها :
” أنا بنت جبيل
أتحدث معكم دون رفة جفن
فاذهبوا نحوي مسرعين
وأعيروني أبصاركم
وأسماعكم ”
ولما اقترب الناس منها وأعاروها ما طلبت منهم ، همست في أذن ” كامل بزي ” فقال نيابة عنها :
” أنا التي استعدت سيفي العاملي
وركبت خيولي
وتدرعت بالطالعين من الضياء
وتطاولت فوق المواجع ”
فهلل الناس وخروا ساجدين ، وقد انصب في قلوبهم تكبير المآذن ، وقرع أجراس الكنائس ، من الأرض التي عليها يركعون .
ثم تقدمت الموكب ، يحيط بها خلق كثير عرفنا منهم ” أمل طنانة ـ إبراهيم بيضون ـ إسماعيل الصغير ـ بلال ومرتضى شراره ـ حسين صعب ” وكنا قد ذكرنا كامل بزي .
كانت الكوكبة تنشد قصائد كثيرة ، وكان مرتضى شراره يردد كالدراويش ابيتا سمعنا منها :
” طال الزمان
وما عادت فلسطين
رغم الملايين
تتلوها ملايين ”
لم يترك الموكب حي ولا حاكورة إلا ومر به ، فمن عين الزغيره إلي البركة إلي الحسينية إلي الحواره إلي الجامع ، وكانت بنت جبيل ترقص وتلوح بسيفها الذي ما ان تلمس أشعة الشمس حده القاطع ، حتى تتحول إلي حزم صغيرة من الضوء تلمع ثم تختفي . وقد قال بلال شراره همسا لمن كان إلى جانبه ، ان حزم الضوء الصغيرة هذه تسافر ” إلي ملاكها الحارس مارون الراس وعيترون ، ويارون ، وعيناتا ، وعين ابل ، ورميش ، والى كل العناوين المعلقة على حبال الضوء عند حدود الوطن ” تحمل زغاريدها وتباريكها بمواكب أعراس شهدائها .
وقال أحد العارفين الطاعنين للجهل بعقولهم ، ولليأس بإرادتهم ، ولغول الشك بيقين التجربة انه من علامات الخير والبركة ، ويمن السعد والطالع ، ان تخرج مواكب أعراس الشهداء في كل أنحاء البلاد في وقت واحد ، فهذا فضل من الله لا يحدث إلا عندما يأذن سبحانه بتجدد الزمان فينهض الإنسان ينفض عن كاهله انحناءة الذل والهوان ، ويمضي مرفوع الرأس نحو الشمس .
وبعدما ترجل الشهداء ومضوا إلي موعدهم مع الخلود ، تطلعت في وجوه الناس بعيون سمعوا رجاء صمتها فانسحبوا واحد واحدا ، إلا كامل بزي الذي أمرته بنظرة خاطفة ان يبقى ، ويقول على لسانها للعرسان الذين بدأت خلوتهم مع الأرض :
” أنا بنت جبيل
أنا الهوى .. أنا العشق
انسكب بين حناياكم
اطبعوا في كفي قبلاتكم
وامسحوا من مقلتي الشجى
وصلوا من اجلي
فلن يستطع أحد بعد اليوم ان يغتال صلاتكم
اغتسلوا بأحلامي
فأنا الروح منكم
هل لكم ان تعطوني بعض ما بأنفسكم ؟؟
وتعيدو لي عطر ربيعي ونقاوة اخضراري ؟؟ ”
كانت تتكئ على سيفها ، شعرها مفرود كعرائش العنب ، لم تحتمل الصمت ، وفي مخيلتها صورة لأوراق التبغ الخضراء التي تآمر عليها ” الجعيل والماليديو “والصهاينة ، أومأت إلي كامل بزي فقال على لسانها كاشفا عن لوعتها :
” إني انتظر رجع الصدى
ارفعوا نظركم إلي
ورتلوا آيات الحب
فأنا سيدة الجنوب
أنا أميرة الأميرات
أنا بنت جبيل ”
ولما لم يجاوبها صوت ، أدرك كامل بزي عمق المها ، وخيل إليه انه يسمع نصل شفرة حزنها وهي تقطع في قلبها ، ويرى الدمعة وهي تقترب من هدبها ، فالتفت إلي ناحية أخرى ، حتى لايرى أحد منهم دمعة الآخر ، فرفعت سيفها وتمشت بين قبور أبنائها عينها تقطر دمعة على شاهدة كل قبر وفي مكان كل دمعة كانت تنبت زنبقة صفراء .