ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
قال الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }.
حث الله سبحانه وتعالى المؤمنين أن يعيشوا حالة الخشوع أمامه والخشوع للحق وقد جعله بمقابل قسوة القلب، والخشوع في اللغة هو الانخفاض والسكون والخضوع. وخشع يعني سكن وذل. والخاشع هو المستكين والراكع، والمنقاد للحق. والخشوع لله يعني الاحساس بالرهبة والخوف والوجل المقترن بالتعظيم.
وصُور الخشوع في القرآن وأنواعه كثيرة قد لا يتسع المجال لذكرها.ولكن مجالنا هو خشوع العبودية لله ، الخشوع الذي يملأ القلب سكينة وطمأنينة, والنفس عزة وفخراً . انه خشوع الايمان واليقين برحمة الله تعالى. وتعبيراته حسب القرآن في الصلاة وفي قراءة القرآن:{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ،{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ }.
من هنا ومن التعريف القرآني للخشوع التعبدي، يكون معيار الإيمان ، وعلى كل منا اختبار إيمانه في ضوء ذلك، بمعنى أنك عندما تريد أن تعرف إيمانك لا بد أن تنظر إلى قلبك.. هل يهتز عند ذكر الله.. هل يشعر بالرهبة.. هل يشعر بالذل والانكسار والخضوع لله.. إذا لم يحصل ذلك فعلى الإنسان أن يعيد النظر في صدق إيمانه وحقيقته..
والخشوع هو حالة قلبية، وهو مقدمة لخشوع الجوارح، ومتى نفذ الخشوع في القلب وتوطن فيه كما ينبغي فإنه ينعكس على بقية الجوارح ويترك أثراً فيها ينعكس على سلوك الإنسان وعلاقاته…فالجوارح هي رعية القلب ، ومن هنا جاء كلام علي(ع): ” فليخشع لله سبحانه قلبك ،فمن خشع قلبه خشعت جميع جوارحه”..
أيها الأحبة:
إن الإنسان المؤمن مطالب بتطهير قلبه من شوائب المعاصي القلبية والإعراض عن الله تعالى والغفلة واللامبالاة التي تنزع منه العبودية لغيره تعالى من مال أو بنين وغيرهما من الأصنام البشرية والأهواء المتعددة… ليكن القلب كما أراده الله سبحانه سليماً.. قال: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}.
ومتى ما سلم القلب عاش الإنسان حالة الخشوع ولسلم من الانحراف، ومن قسوة القلب، والحذر كل الحذر من الاعتماد على رصيد روحي سابق، فلا بد دوماً من أن نتعهد قلوبنا يومياً ومرات كل ساعة ودقيقة، بكل ألوان التربية والعناية والصيانة فكما الابدان تحتاج للصيانة كذلك القلب يحتاجها ، فإذا لم نفعل وطال علينا الأمد، كما تشير الآية: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي طالت المدة فقد يتلاشى هذا الرصيد الروحي..ونحن نظن أن لدينا منه الكثير (بناءا على أعمالنا السابقة من حج اوعمرة او زيارات واذكار) ولكن قد تجف مشاعر الخشوع وتقسو القلوب ونسقط بالتالي في امتحان الإيمان، كما حدث لكثير ممن نعرفهم من الأشخاص أو من الأمم السابقة التي لم يبق في قلوبها من الدين إلا العنوان الطائفي أو العادة الجامدة او الطقوس الفارغة التي لا تهز قلوبها ومشاعرها عظمة الله ونعمه…
وهناك مقاربة بديعة في القرآن الكريم وهي أن علاقة الخشوع والقلب تماما كعلاقة الماء مع الأرض الميتة فكما أن الأرض الميتة إذا بللها المطر ورواها تطهرت وعادت إلى الانتعاش والحياة، كذلك فإن الخشوع لله يطهر القلب و ينعشه ويلينه بعد القسوة:
{وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ …}.
أيها الأحبة:
إننا عندما نتحدث عن الخشوع، فإننا نتحدث عن مدى واسع، لا يقف عند حدود.. فهي الحالة التي تغمر قلب الإنسان كلما ذكر الله أو تليت آياته، وفي مواطن التعرف اليه : الى حكمته ورحمته وجلال صفاته ومواطن نعمه وقدرته وتشريعاته ، لتنشأ بذلك معادلة سحرية مفادها أنك تصل إلى حالة الخشوع بمقدار ارتباطك بالله وآياته، والخشوع يتغذى من هذه المعرفة وهذا الارتباط.
أما أبرز مظاهر الخشوع فهو في الصلاة لكونها عبادة دائمة ولأنها عمود الدين..والخشوع فيها ينسحب على باقي الاوقات والاعمال. والخشوع في الصلاة ليس من الكماليات بل من الضروريات هي من الشروط اللازمة للصلاة . نعم في الحكم الشرعي أنه لا يجب قضاء الصلاة لمن يأتيها من دون خشوع.. الله لا يعاقبك اذا لم يخشع قلبك وجوارحك في الصلاة لأن الحب له يجب ان يكون ارادياً وليس بالالزام والفرض .. الله يريد من عبده ان يقبل عليه رغبة وحباً وشوقاً، ونظم مواعيد اللقاء عبر الصلاة كإطار يساعده ويهيء له المجال للاقبال عليه.. إن من يصلي لله من دون خشوع هو بالحد الأدنى لا يظهر التعظيم الذي يستحقه الله لذاته.
فلنتخيل أن مسؤولا أو شخصية نافذة أعطانا موعدا نادرا للقائه و لتلبية طلباتنا من دون تحفظات او وساطات وعندما حضرنا الى مجلسه امضينا وقتنا لننظر إلى الهاتف أو نفكر في المشاغل أو الملاهي الأخرى، عندها سيكون سلوكنا تعبيراً عن عدم احترامنا لمن أعطانا هذه المنحة وهو ايضا تضييع لفرصة قد لا تتكرر. و هكذا بالتحديد هي الصلاة. ان نقبل على الله في موعد اعطانا اياه لنكون بين يديه تواصلاً وطلباً، لا ينبغي ان ننشغل بشيء عنه فلا شيء أهم من هذا اللقاء.
إن بذل جوارحنا و مهجنا في وقفتنا بين يدي الله ليس من الامور الكمالية، بل هو واجب وشرط .. نعم لهذا كان الخشوع مراتب و استعدادا روحيا و نفسيا يصله الإنسان بالتدرب و العرفان على مستوى النية وهذا شيء ممتاز و كذلك ينبغي ان يكون على مستوى إراحة الحواس الأخرى.
لهذا كي ندرب قلوبنا على حب الله فلنختر المقام الهادئ بعيداً عن الأصوات و نعط من وقتنا حيزاً للصلاة و العبادة ونفرغ انفسنا ونستعد له. ولأجل ذلك علينا اتخاذ خطوات عملية تساعد القلب على أن يخلو بربه ومن هنا نفهم فكرة قيام الليل في السحر في الهدوء حيث الاجواء متاحة لسكون الجوارح وعدم انشغالها بشيء. للأسف صار الاستخفاف بالصلاة ان البعض لا يصلي الا ان كان هناك ضجة حوله والبعض يصلي والتلفاز مشغل امامه او الهاتف .. وكأنه يستوحش في الصلاة ويريد من يؤنسه .. للأسف الأمور العبادية والايمانية بدأت تنحو منحى وظيفيا طقسيا بحتا .. البعض يعتبر ان المهم هو إسقاط الفريضة .. وكأن الله بحاجة الى صلواتنا واعمالنا فيما هي قائمة لأجلنا ولأجل إحيائنا :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ …. }
أيها الأحبة:
إننا أحوج ما نكون إلى هذه الشخصية الخاشعة التي تحدث عنها رسول الله(ص) عندما قال: “وأما علامات الخاشع فأربعة : مراقبة الله في السر والعلانية ، وركوب الجميل ، والتفكر ليوم القيامة”.
فالشخصية التي تخشع لله هي بالطبع ستكون حرة.. قراراها بيدها، لأن الخشوع الذي يريده الله أن يقر في قلب المؤمن ليس رعباً ولا خوفاً من طاغية أو مستبد بل هو خشوع الطاعة لرب يريد من عباده أن يكونوا أعزاء أحراراً لا يطأطئون رؤوسهم لظالم أو عاتٍ أو مستكبر.. إنه ذلك الحب والتعلق والعبودية الصادر ممن لان قلبه وذاب وجداً وحباً للتقرب منه سبحانه.هذا ما يفعله الخشوع في القلب، يوقظه من غفلته ويصونه من الوقوع فريسة الحقد أو في قبضة التمرد والاستكبار.
إن الحديث عن فعل الخشوع في الانسان وأثره لا ينتهي فلنعمل على ان تكون اعمالنا منسجمة مع بعضها شكلاً وقالبا. ولتكن صلواتنا هي خير معبر عن ذلك مهما كانت الانشغالات ومهما كانت الحياة بل على العكس .. كلما اشتدت على الانسان وكلما شعر بضغوطات الحياة ينبغي ان تكون الصلاة ملاذه وموطنه.. وليكن لنا في رسول الله اسوة حسنة .. وهو من هو، حبيب الله ، ومن اصطفى من عباده يصفه احد أصحابه: كان إذا قام إلى الصلاة تربد وجهه خوفاً -ورهبة اللقاء- من الله. والامام علي “كان إذا دخل الصلاة كان كأنه بناء ثابت أو عمود قائم لا يتحرك”.
وليكن دعاؤنا :”ربِّ لك خشع قلبي وسمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي ومخّي وعصبي وعظامي وما أقلّته قدماي.. لا لسواك.. لا إله إلا أنت سبحانك أنني كنت من الظالمين…”.