الحسين (ع)

ونبقى مع الإمام الحسين(ع)، لنعرف كيف كان يتحدّث إلى النّاس في الفكر الّذي يقدّمه إلى عقولهم لتتوازن، وإلى قلوبهم لترقّ وتلين، وإلى حياتهم لتستقيم. وتلك كانت المهمّة الأولى والأخيرة للإمام(ع) في موقع إمامته، الّتي تفتح للنّاس أبواب الإسلام من أوسع أبواب الحياة. وهذا هو ما ينطلق به الدّعاة المصلحون في أن يجعلوا الحياة في إنسانها وفي مواقعها كلّها، إسلاماً يتحرّك، فكلّ حركة الإسلام في موقع النبوّة أو الإمامة أو الإصلاح، هي حركة الدّعوة إلى الله.

الجهاد أسلوب للدّعوة
فالجهاد أسلوب من أساليب الدّعوة إلى الله تعالى، لأنّه يعمل من أجل أن يزيل الحواجز التي ينصبها الآخرون في طريق الدعاة إلى الله عزّ وجلّ، والدعوة أسلوب من أساليب إقناع الناس بالحقّ، وكذلك السّياسة، وأساليب العمل الاجتماعي، وكلّ مجالات العمل الثقافي الإسلامي، بما فيها العمل الفنّي… كلّها من أساليب الدعوة إلى الله.
ولذلك، فإننا لا نحاول أن ندخل في التجزئة، فنعتبر شيئاً عملاً إسلامياً، وشيئاً آخر عملاً غير إسلاميّ، لأنّ الإسلام لا يحبس نفسه في دائرة ضيّقة، ولذلك، فإنّ الحديث عن إسلام لا سياسة فيه، وعن إسلام لا يلتقي مع العلم، وعن إسلام لا يلتقي بالحياة، هو حديث غير ذي موضوع، لأنّ الله عزّ وجلّ قال وهو يقدّم لنا دعوة الرسول(ص): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، فكلّ حركة للحياة، سواء كانت حركة حياة الفكر، أو حياة القلب، أو حياة الثقافة في جميع مواقعها، أو حياة المجتمع، تمثّل كلّها دعوة الله تعالى والرّسول(ص).
فتعالوا، وقد تعوّدتم على الحسين(ع) في الوجه الكربلائي، لنتصوّره في الوجه الآخر.

مـع كلمات الحسيـن(ع)
كان الإمام الحسين(ع) يفسح في مجلسه أو في المجلس الذي يحضره، لتنوّع الحديث، بحيث كان كلّ واحد من الجالسين يُدلي برأيه، ليحدّد مفهومه لعنوان من العناوين هنا وهناك، فيشاركهم الرأي في موضوع الحديث. فأهل البيت(ع)، وهم القمّة في الفكر، كانوا لا يصادرون آراء الناس من حولهم، بل كانوا يريدون لهم أن يعبّروا عن أفكارهم بين أيديهم، ليصحّحوا لهم ما أخطأوا فيه، وليثبّتوا لهم ما أصابوا فيه، فأهل البيت(ع) يؤمنون بأنّ على الإنسان أن يفكّر، وأنّ على القيادة أن تشجّع أتباعها على أن يفكّروا، لتفكّر معهم أوّلاً، ولتعطيهم الفكرة في ما يجهلونه ثانياً.
وقد جاء في الحديث: “تذاكروا العقل”، وكان النّاس في مجلس لمعاوية، وكان الإمام الحسين(ع) حاضراً فيه، فقال(ع): “لا يكمل العقل إلا باتّباع الحقّ” ، إنّه يريد أن يقول فيما نفهمه من قوله: ربما يتحرَّك العقل في كثير من الفرضيَّات، وربما يطلق الكثير من الاحتمالات، وربّما يطبق عليه التعصّب في بعض نقاط ضعفه، وإنّ قيمة العقل هي أنّه يفتح عناصره كلّها لأيّ فكر قادم، فإذا رأى الحقّ أمامه اتّبعه. وبذلك، يمثّل العقل كماله عندما يخضع للحجّة الّتي تثبت الحقّ.

قال ذلك في مجلس معاوية، وكأنّه أراد أن يقول للنّاس: إنّ النّاس قد يتحدّثون عن شخصٍ ما يملك لعبة إدارة الأفكار وتزوير الحقائق، ويملك اللّعب على المشاعر، وقد يعتبرون هذا الشخص في موقع العاقل وهو يتعصّب للباطل، أو يحاول أن يصوّر الباطل بصورة الحقّ.

إنّ الإمام الحسين(ع) يقول إنّ هذا ليس عقلاً، لأنّ العقل يمثّل عمق الفطرة الإنسانية التي تمتلئ بالضّوء الذي يطلّ على الحقيقة من أقرب طريق، ولذلك، لا تعتبروا كلّ من يملك اللعبة السياسية أو الاجتماعية عاقلاً، بل انظروا إلى نتائج لعبته، وإلى نتائج حركته الثقافية، فإذا رأيتموه ينتج الباطل، فاعرفوا أنّها شيطنة وليست عقلاً، لأنّ العقل هو الذي يتجرّد من الهوامش كلّها، والأهواء والعصبيات كلّها، ليلتقي بالحقيقة من أقرب طريق. ولذلك، كلّ فكر ينطلق من خلال العصبيّات والأهواء، ليس عقلاً، فقد يكون جهلاً مركّباً، وقد يكون شيطنة.

حدود الصّدق والكذب
وهناك كلمة أخرى للإمام الحسين(ع)، يعطي فيها للكذب صفة، وللصّدق صفة، تتصل بالحالة النفسيّة للكاذب والصّادق من جهة، وبالحالة النفسيّة لمن يستمع إلى الصّدق وإلى الكذب من جهة أخرى، وهي: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك”، فعندما تسمع الكلام، ادخل في عمقه، وابحث عن عناصره كلّها، وادرس نتائج ذلك كلّه في داخل نفسك، فهل تشعر بوجود حالة من الحذر، لأنّ هناك بعض العناصر التي لم تشعرك بالراحة، أو أنّك تنفتح على حالة من السكينة، فإذا رأيت نفسك، من خلال الدراسة الكاملة لجميع الجوانب، ترتاح وتطمئنّ وتعيش السكينة، فذلك هو الصدق، وإذا رأيت نفسك ترتاب وتحذر وتخاف، فذلك هو الكذب.
ثم إنّ الكاذب نفسه عندما يكذب، فإنه يعيش ريبته في نفسه، لأنه يعرف أنه لم يقل الحقيقة. أما الصادق، فإنه يطلق الكلمة من خلال حالة من السكينة العقلية والروحية والشعورية.
“دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الكذب ريبة، والصّدق طمأنينة” ، فالصّادق مطمئنّ إلى أنّه يعرف أنّه لا يقول إلا حقّاً، ولذلك، فإنّه يشعر بأنّ ثقته بالكلمة التي يقولها، سوف تمتدّ إلى أن تكون ثقة عند من يسمعها، لأنها تستجمع عناصر الثقة كلّها.

الأمور بخواتيمها!
وهناك كلمة له(ع)، قال فيها متحدّثاً عن هؤلاء الّذين يريدون أن يصلوا إلى أهدافهم بمعصية الله تعالى، بحيث يجعل أحدهم المعصية وسيلة للوصول إلى هدفه، فهو يكذب ليصل إلى غايته، ويظلم ليحقّق أطماعه، ويغشّ ويخدع وينافق، وما إلى ذلك من ألوان المعصية، وهو يخيّل إليه أنّه قد حقّق ما يريد، وأنه تخفّف مما يحذر، قال: “من حاول أمراً بمعصية الله، كان أفوت لما يرجو، وأسرع لما يحذر” . فأنت قد تحصل في السطح وفي العاجل على بعض ما تريد من خلال معصية الله، ولكنّ الله جعل في عمق المعاصي الوجودي مفسدةً لك وللناس من حولك، وجعل في المعاصي نتيجةً مهلكة في مواقع سخطه التي تؤدي بك إلى النار، فلن تنجح في المعصية، لأنّ النتائج السلبية في داخلها، سواء في الدنيا أو في الآخرة، تجعلك أفوت لما ترجو، وأسرع لما تحذر. والقصّة هي كما يقول المثل: إنّ الّذي يضحك هو الذي يضحك أخيراً، فقد تطلق قهقهاتك في البداية، ولكن هذه القهقهات قد تتحوّل إلى صرخات لمصيرك في الدّنيا والآخرة، تنسى فيها كلّ تلك الضحكات، والأمور بخواتيمها لا ببداياتها. ومشكلتنا ـ أيها الأحبة ـ أننا قوم يعجبنا الطّعم الحلو، ولا نلتفت إلى السمّ في داخل كلّ تلك الحلاوة، ألا تسمعون بالسمّ في الدّسم؟! “كم من أكلةٍ منعت أكلات” .

البـلاء اختبار للإيمان
ويقول(ع) وهو يدرس واقع النّاس في مدى التاريخ، ولا سيما في عصره؛ أولئك الذي تراهم وهم يعيشون مظاهر الزهد والتقوى، ويتحرَّك الدّين في حياتهم بعيداً عن التَّجربة، فالكثير من النّاس صادقون عندما لا يكون هناك مجال للكذب في حياتهم، وعادلون لأنّهم لا يستطيعون أن يظلموا أحداً، ولأنهم لا يملكون القدرة على ذلك، وأمناء لأنهم لا يجدون مجالاً للخيانة. ولذلك، يحدّثنا الإمام الحسين(ع) عن الإنسان الّذي يرتبط بالسّطح، وينفتح على الغرائز، ويتحرّك في خطّ المطامع: “الناس عبيد الدنيا ـ يعبدونها بالخضوع لكلّ قيمها ولكلّ صغائرها وغرائزها، وهي القاعدة عندهم فيمن يحبّون ويكرهون، وفيمن يؤيّدون ويرفضون ـ والدّين لعق على ألسنتهم ـ تماماً كطعم الحلاوة التي تكون على اللّسان ـ يحوطونه ما درّت معايشهم ـ فيصلّون ويصومون ويهتفون بما يهتفون ـ فإذا محّصوا بالبلاء ـ وقال لهم الدّين إنّ هناك تضحية بالشهوات، وإنّ هناك عصبيّات لا بدّ لكم من أن تتنازلوا عنها، وإنّ هناك عدلاً لا بدّ من أن تأخذوا به، وظلماً لا بدّ من أن تتركوه، وإنّ هناك جاهاً لا بدّ لكم من أن تتنازلوا عنه ـ قلّ الديّانون” .

إنها تجربة تتمثّل في أكثر مسارات التاريخ التي عاشت مأساة الأنبياء والأولياء والمصلحين، لأنّ الناس ـ حتى الذين يحضر الدين في عقولهم إرثاً، أو تقليداً، أو بيئة، أو ما إلى ذلك ـ كما كانوا مع الحسين(ع)، قلوبهم معه وسيوفهم عليه. ولذلك، فإنّ علينا في مواقعنا كلّها، السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، أن ننظر إلى الناس من خلال حركة التجربة في حياتهم، فالكلمة وحدها لا تعطيك عنصر الشخصية الأصيل، وقد قال المتنبّي:

إذا اشتبكت دموع في خدود تبيّـن من بكى ممّن تباكى

هذه هي المسألة. وقد قال الشاعر (أحمد الصافي النجفي)، وهو يعلّق على القول المعروف للإمام علي(ع): “انظر إلى ما قيل، ولا تنظر إلى من قال”، قال:

كثر الخداع اليوم في أقوالنا فانظر إلى مَن قال لا ما قيلا
انظر إلى قائل الكلمة لترى: هل تعيش الكلمة في عمق تجربته وامتدادها، أو أنّها مجرد لعقة على لسانه؟ فتلك هي المشكلة في الساحة بين القول والفعل، وبين التجربة والشعار.
لمـن المعـروف؟

ويقول الإمام الحسين(ع)، وقد دار الحديث في مجلسه حول سؤال: لمن المعروف؟! فعندما تريد العطاء، هل تدرس استحقاق من تريد أن تعطيه، لتميّز المستحقّ من غير المستحقّ، أو أنّ عليك أن تنطلق من إيمانك بالمعروف ومن روحيّة العطاء في نفسك؟ ففي العطاء ـ أيها الأحبة ـ معنيان؛ المعنى الأوّل يتصل بالمعطي، باعتبار أنّ العطاء عنصر إنساني يوحي بأنّ هذا الإنسان لا يعيش في داخل ذاته، بل يعيش في وعيه لطاقاته، بأنها ليست ملكه، بل هي ملك الآخرين مما يحتاجونه منها.

والنقطة الثّانية في العطاء هي حاجة من تعطي، أي استحقاقه. لذلك، يقال إنّ رجلاً قال عند الإمام الحسين(ع): “إنّ المعروف إذا أسدي إلى غير أهله ضاع”، أي إذا أعطيت من لا يستحقّ من معروفك، فإنّه يضيع، لأنه لا يجد أرضه التي يستقرّ عليها، ولا يجد نتائجه الإيجابيّة التي يفترض أن يحقّقها. فهذا الرّجل ينظر إلى المسألة من خلال طبيعة المعطي، فقال الإمام الحسين(ع) وهو ينظر إلى المسألة من خلال إنسانية المعطي. قال(ع): “ليس كذلك، ولكن تكون الصنيعة مثل وابل المطر، تصيب البرّ والفاجر” ، فكُن كالمطر الذي عندما يهطل، فإنه لا يدرس الأرض التي يقع فيها، هل هي أرض جديبة أو هي أرض خصيبة؟! إنه يختزن في ما أودع الله فيه معنى أن يعطي، لأنّ العطاء سرّ وجوده. فليكن العطاء سرّ وجودك، فتعطي لأنّك تؤمن بالعطاء، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين(ع)، والولد سرّ أبيه: “اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد، وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنّصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافئ من قطعني بالصّلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذّكر” . وكان في وصيّته لأحد أبنائه: “يا بنيّ، افعل الخير إلى كلّ من طلبه منك، فإن كان أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن بأهل كنت أنت أهله”. وتلك هي صفة الله تعالى الّذي يريدنا أن نتخلّق بأخلاقه، حسبما ورد في الحديث الشّريف: “تخلّقوا بأخلاق الله” ، فنحن نقرأ في الدّعاء: “إن لم أكن أهلاً أن ترحمني ـ لأنّ ذنوبنا تشدّنا إلى الأسفل ـ فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كلّ شيء” . وفي الدعاء أيضاً: “يا من يعطي من سأله تحنّناً منه ورحمة، ويبتدئ بالخير من لم يسأله تفضّلاً منه وكرماً” ، فالله تعالى يعطي المؤمن والكافر.

من هنا، فإنّ المسألة الأخلاقية في الإسلام هي مسألتك أنت، كيف تعيش أخلاقياتك بقطع النّظر عن ردّ الفعل الآخر، لأنّك بمجرّد أن تفكّر في ردّ الفعل، تكون قد دخلت أخلاقك السوق التجاريّة، أي تعطي بقدر ما تأخذ. فلا بدّ من أن نربّي أنفسنا على أن نكون كالشّمس، كما يقول السيد المسيح(ع)، تطلع على البرّ والفاجر، وكالينبوع يتدفّق لأنّه لا يعرف إلا أن يعطي الماء لمن يريد أن يشرب، دون النظر في هويّة الشّارب.. وتلك هي روحية الإمام الحسين(ع)، الّذي انطلق ليعطي النّاس محبّته كلّها، حتى لو كان الناس يقدّمون البغضاء كلّها، لأنّ الإمام الحسين(ع) لا يملك إلا أن يحبّ. ولذلك، يقول بعض رواة السّيرة، إنّه كان يبكي على الّذين يقاتلونه، لأنّهم سوف يتعرّضون لعذاب الله بسببه. فأيّ قلب أرحب وأوسع وأرقّ من هذا القلب؟! ولذلك لا نملك إلا أن نحبّ الحسين(ع).

ويقول(ع) في الاتجاه نفسه: “إذا كان يوم القيامة، نادى منادٍ: أيّها النّاس، من كان له على الله أجر فليقم، فلا يقوم إلا أهل المعروف” ، أي الّذين صنعوا المعروف في الناس من أهل الكرم والعطاء، ممن لا يفكّرون في المقابل، لأنّهم تجاوزوا ذاتياتهم، وانطلقوا إلى ما يرجونه من الله سبحانه وتعالى. ولعلّ من أفضل أعمال الإنسان، أن يربّي نفسه على أن يتجاوز ذاته في سبيل الناس كافة، وفي سبيل الحياة كلّها، لأنّ ذلك كلّه هو سبيل الله.

حـدود المسؤوليـّة
ثم يحدّثنا الإمام الحسين(ع) عن المسؤوليّة، فكيف يحدّد الله تعالى للإنسان مسؤوليّته في ما يريد للنّاس أن يطيعوه فيه؟ فيقول: “ما أخذ الله طاقة أحد إلا وضع عنه طاعته ـ فالطاعة تتحرّك جنباً إلى جنب مع القدرة، فلكلّ طاعة طاقة تتحرّك في داخلها، فإذا سلب الله منك هذه الطّاقة، فإنه يضع عنك الطّاعة في حجم هذه الطاقة. فنحن ـ مثلاً ـ يجب علينا أن نصلّي من قيام، ولكن إذا حدث للإنسان أيّ مانع يمنعه من القيام، فإنّ الله يرفع عنه طاعته في الصّلاة قائماً، فيصلّي قاعداً، وإذا لم يستطع الإنسان الصّيام في شهر رمضان، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وإذا لم يستطع، فإنّ الله تعالى يبدله بالفدية وما إلى ذلك ـ ولا أخذ قدرته إلا وضع عنه كلفته” ، فالله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} .

ثم يتحدّث عن الّذين يجلسون إليه، فماذا يستفيد النّاس من الجلوس في مجالس أهل البيت(ع)؟ وماذا يقدّم أهل البيت(ع) للنّاس الذين يأتون إليهم؟ فيقول: “من أتانا لم يعدم خصلة من أربع: آية محكمة ـ لأننا نحدّث الناس بالقرآن، كما أنزله الله تعالى مبنى ومعنى، لأننا نعرف من القرآن ما لا يعرفه الناس ـ وقضية عادلة ـ لأننا نتحدّث إلى الناس بالعدل في القضايا التي يعيشها الناس، فمن أتانا عرف العدل من خلال الخطّ المفهومي للعدل، ومن خلال حركة العدل في قضايا الناس ـ وأخاً مستفاداً ـ لأنه يعرف قاعدة الأخوّة من جهة، ويعرف كيف يستفيد من هذه الأخوّة، فالذين يعيشون في مجالس الأئمة(ع)، هم الذين ينطلقون في علاقاتهم بالناس من موقع الأخوّة ـ ومجالسة العلماء” ، وأهل البيت(ع) هم القمّة فيما تتمثّل به هذه الكلمة.

أسبـاب كثـرة الحلـف
ويعالج الإمام الحسين(ع) كثرة الحلف، فهناك كثير من الناس يحلفون بالله تعالى بمناسبة وبغير مناسبة، فكيف يفسّر الإمام الحسين(ع) فيما روي عنه كثرة الحلف؟ إنه يقول: “احذروا كثرة الحلف، فإنه يحلف الرّجل لخلال أربع: إمّا لمهانة يجدها في نفسه تحثّه على الضّراعة إلى تصديق النّاس إيّاه”، أي رجل يحلف ليربح تصديق الناس وثقتهم، وهو لا يشعر بالثقة في أن الناس يصدّقون كلامه عندما يطلقه على طبيعته، لذلك، يلجأ إلى الحلف، وكأنه يتوسّل إلى الناس بالحلف، فيقول: أرجوكم صدّقوني، فهو يعيش الذلّة في نفسه أمام الناس، ولا يشعر بقوّة نفسه أمام المجتمع من حوله.
“وإمّا لعيٍّ في المنطق، فيتخذ الإيمان حشواً وصلة لكلامه”، أي ليس عنده من الفصاحة ما يعبّر به عن مراده، بالطريقة التي يمكن أن يفهمها الناس أو يقتنعوا بها، فيحاول أن يدخل الحلف حشواً في كلامه، كوسيلة لإيصاله إلى النّاس، لا من خلال شرحه للمسألة، ولكن من خلال طبيعة الأيمان التي يحشو بها كلامه.

“وإمّا لتهمة عرفها من الناس له، فيرى أنّهم لا يقبلون قوله إلا باليمين”، أو يشعر بأنّ الناس يتّهمونه، وهذا ما يحصل كثيراً لدى التجّار والباعة، فالبائع عندما يرى الناس يشكّون في بضاعته أو في سعرها، يستعمل الأيمان المغلّظة في مقام دفع التهمة عن نفسه.
“وإمّا لإرساله لسانه من غير تثبيت” ، أي أنّه رجل مهذار، يطلق كلامه من دون تفكير وتدبّر، وبذلك، نفهم خلفيّة الذين يكثرون الحلف في كلامهم.

موعظـة في ترك المعصيـة
وقال رجل للحسين(ع): أنا رجل عاصٍ، ولا أصبر عن المعصية، فعظني بموعظة، فقال الحسين(ع): “افعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت؛ فأوّل ذلك: لا تأكل من رزق الله وأذنب ما شئت. والثّاني: اخرج من ولاية الله وأذنب ما شئت. والثّالث: اطلب موضعاً لا يراك الله وأذنب ما شئت ـ وفي الحديث عن الإمام عليّ(ع): “اتّقوا معاصي الله في الخلوات، فإنّ الشّاهد هو الحاكم” ـ والرّابع: إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت. والخامس: إذا أدخلك مالك في النّار، فلا تدخل النّار، وأذنب ما شئت” . فكأنّ الإمام(ع) يريد أن يقول له: عندما تريد أن تجاهد نفسك في ترك المعصية، فعليك أن تدرس المسألة من خلال موقعك من الله، ومن خلال مقام ربّك، ومن خلال مصيرك، فليست المسألة هي أنّك تدمن عادة، وتخاطب نفسك في ذاتيّة العادة، ولكن أن تراقب مقام ربّك، وموقعك منه، ومصيرك بين يديه، وأن لا تفصل حركتك في مجاهدة نفسك عن كلّ هذه الآفاق.

طريق الحـقّ
أيّها الأحبّة، هذه بعض ملامح الوجه الآخر للحسين(ع). وبعد ذلك، إذا كنا نترك الحسين(ع) يتحدّث، ونلقي أحاديثه في الفراغ، ونتمرّد على مواعظه، ونبتعد عن مفاهيمه، فماذا ينفع أن نبكي على الحسين(ع)؟ فأن تبكيه، يتطلّب منك أن تبكي على نفسك أوّلاً، فإذا بكيتها، وأصلحتها، وانفتحت على ربّك، فسوف تلتقي الحسين(ع)، وإلا كيف تلتقيه وهو يقول: “ألا ترون إلى الحقّ لا يعمل به ـ وأنت لا تعمل بالحقّ في حديثك وعلاقتك ومواقفك؟! ـ وإلى الباطل لا يُتناهى عنه” ، وأنت تتحرّك في خطّ الباطل وساحته ومع أهله؟!

أيّها الأخوة، إنّ الإمام الحسين(ع) هو إمام الحقّ، فمن أراد أن يكون مع الحسين(ع)، فليكن مع الحقّ في العقيدة، ومع الحقّ في الشّريعة، ومع الحقّ في المنهج، ومع الحقّ في حركة الحياة، فهذا هو طريق الحسين(ع)، فهو ليس لعباً، ولا لهواً، ولا استعراضاً، ولا هو كلّ هذا اللّغو الّذي يأخذ به الكثير من النّاس.

السيد فضل الله
بينات

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …