يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً}[الأحزاب: 36].
أمام هذه الآية، نطرح قضيّة الثّأر للدّم الّذي تقوم به العشائر عندما تُصاب بقتلٍ من قومٍ آخرين، حيث لا يهدأ لها بالٌ، ولا يستكين لها قرار، ولا تتقبَّل عزاءً، إلا أن تصيب من أولئك القوم مقتلًا تختاره مؤلمًا وموجعًا.
قيم العشائر
ولا بدَّ لنا هنا من أن نعالج الموضوع من خلال عدّة نقاط:
في البداية، لا بدَّ من أن نشير إلى أنّ ثمّة قيماً في العشائر لا تزال تشكِّل جزءًا لا يتجزّأ من تراثها وثقافتها وتربيتها للأجيال المتعاقبة فيها، وهذه القيم هي قيم إنسانيّة أكّدتها الأديان، وأهمّها صلة الرّحم والتعاضد والتكافل والنخوة والكرم… هذه القيمة نكاد نفقدها من كثير من مجتمعاتنا وعوائلنا، حتّى أصبح الواحد منّا يولد فردًا ويعيش فردًا ويموت فردًا، لا علاقة له بما حوله وبمن حوله.
ولقد مثّلت الحالة القبلية والعشائرية بنية اجتماعية متماسكة، أمّنت مساحة من الانفتاح الديني والمذهبي، حيث هناك قبائل وعشائر تحتضن أقرباء من مذاهب مختلفة، وكذلك من أديان مختلفة، وهذا ما يجعلنا نراهن على هذه البنية عندما تعصف الفتن في الواقع، لنجد العشيرة واحدةً من آليّات حماية المجتمع والدولة.
إلا أنّ ذلك التماسك العصبوي قد ينفذ إلى بعض الأمور التي تجعلها تتحرّك في خطّ الظلم وهي ترفع شعار نصرة المظلوم، وقد تقتل البريء ثأرًا، وهو ما يحتاج منّا إلى طرح عدّة نقاط:
حقُّ الثّأر.. ولكن!
النّقطة الأولى: المشاعر والأحاسيس مؤلمة، ولا سيَّما عندما يصاب والدٌ بولده، أو أخٌ بأخيه… ولكنَّ هذه المشاعر والأحاسيس لا بدَّ من أن تبقى منضبطة ضمن قيم الشّرع، والله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً}[الإسراء: 33]. فالإسلام جعل للوليّ الحقّ في القتل، لكن قتل القاتل، وبشروط تأتي الإشارة إليها، وليس قتل أيّ إنسان منتمٍ إلى عائلة القاتل، لمجرّد أنّنا نريد أن نجرّعه الكأس المرّة والآلام التي تجرّعناها!
ولذلك، فالظّلم لا يعالج بالظُّلم، والحقّ لا يؤخَذ بالباطل، والعدل لا يقامُ بالجورِ…
وقد كان أبلغ درس أعطاه الإمام عليّ(ع)، هو لحظة ضرب ابن ملجمٍ رأسه بالسّيف، فقال: يا بني عبد المطّلب، لا ألفينّكم تخوضون دماء المسلمين خوضًا، تقولون قتل أمير المؤمنين، ألا لا تقتلنَّ بي إلا قاتلي. انظروا إذا أنا مِتُّ من ضربته هذه، فاضربوه ضربةً بضربة، ولا يمثَّل بالرّجل؛ فإني سمعت رسول الله(ص) يقول: “إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور”.
شروط الثّأر للدّم
النّقطة الثّانية: من أدنى شروط إقامة الحدود، التثبّت وإقامة الشَّهادات والحجج والبراهين القضائيَّة على أنَّ فلانًا قتل، أو فلانًا سرق، أو فلانًا زنى.. ما نجده في واقعنا، أنّنا نحاكم بالظّنّ، ونحكم على الشّبهة، ونقتل على التّهمة.. وبعد ذلك، يناصر النّاس بعضَهم بعضًا من خلال الإشاعات والاستنسابات، وعلى قاعدة العصبيّة القبليّة أو المذهبيّة أو الطائفيّة… فعن رسول الله(ص): “إذا عملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فأنكرها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها”. وعن الإمام عليّ(ع): “الراضي بفعل قومٍ كالدّاخل فيه معهم، وعلى كلّ داخلٍ في باطلٍ إثمان: إثم العمل به، وإثم الرّضا به”، وعنه(ع): “أيّها النّاس! إنما يجمع النّاس الرّضا والسّخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد، فعمّهم الله بالعذاب، لما عمّوه بالرّضا”.
مرجعيّة القضاء
النقطة الثّالثة: إنّ تطبيق القصاص نتيجة القتل، إنما يكون بمراجعة الحاكم الشّرعي، وإن تطبيق الحدود لا يكون بلا نظام، وقد جُعِل النّظام هو القضاء، وإلا لزم من ذلك الفوضى، ويمكن لأيّ كان أن يدّعي أنّ فلانًا قاتل فيقتله.
السيد جعفر فضل الله