الإنتفاضة الثالثة

كل دقيقة من الوقت المقبل حاسمة في تحديد مصير الانتفاضة الثالثة. بين رغبة الأطراف كلها في الهدوء، وبين التطورات الميدانية التي تقود إلى التصعيد، قد تتغير التقديرات في لحظة

معز كراجة
لنتحدث بشيء من الغضب. هل يتمتع رئيس السلطة محمود عباس بالذكاء الكافي ليدرك أن الفلسطينيين، وخاصة في الضفة المحتلة، يحملون غضباً دفيناً تجاه سلطته، وخاصة بعد عملية الخليل، وهل تمتلك حركة «حماس» القدر الكافي من الموضوعية لتقر بأن صورتها في المقاومة قد فقدت هيبتها ما بين القول والفعل وحجم الفعل؟ وهل بقية الفصائل، منها اليسارية، لديها الشفافية لتعترف بعجزها عن التأثير في ما يجري؟

بعد أكثر من أسبوعين على هذه الأحداث الأخيرة والانعطافة المتمثلة في استشهاد الفتى المقدسي محمد أبو خضير، تدل المؤشرات على أن كل الأطراف، ابتداءً من السلطة، مروراً بـ«حماس»، وانتهاءً بالحكومة الإسرائيلية غير معنية بتوسيع رقعة المواجهة لتصل إلى حد الانتفاضة، وكل ما جرى أمس وفي الأيام الماضية كان يظهر أي طرف وهو متثاقل في تنفيذ خطواته المرحلية.
لنبدأ من عند عباس، فهو الأكثر وضوحاً، لأنه جاء إلى السلطة عام 2005 بشعار «لا للمقاومة المسلحة»، وعمل بجهد لإنهاء مظاهر الانتفاضة الثانية التي نشبت عام 2000. بعد ذلك بسنوات قليلة أعلن مراراً أنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة حتى لو كانت بالحجر، وجاء خطابه عن عملية الخليل ترجمة عملية لهذه السياسة، بل إن اجتياح الجنود الإسرائيليين مدن الضفة لم يدفعه إلى التحفظ، ولو قليلاً، على «قدسية التنسيق الأمني».
أما حماس، كعادتها في السنوات الأخيرة، فظلت تتأرجح بين خطاب يشدد على المقاومة، وممارسة تجنح إلى التهدئة والانحناء أمام العاصفة. مجمل الخطوات السياسية التي اتخذتها منذ 2006 لا تسمح لها بغير ذلك، لأنها أصبحت جزءاً من السلطة، ورغم أنها خرجت من الحكومة فإنها لا تزال جزءاً أساسياً من المجلس التشريعي. حتى قرار الرد (المقاومة) لديها أصبح أصعب بعد خروجها من محور سوريا وربط نفسها عضوياً بمشروع الإخوان المسلمين السياسي وداعميه. من الواضح أيضاً أنها مستمرة في هذا الطريق الذي يبتعد عن المقاومة بعد أن وقعت اتفاق المصالحة تمهيداً للمشاركة في انتخابات تعيد لصقها بالسلطة وتفتح لها الباب إلى منظمة التحرير.
عند الطرف الثالث، إسرائيل، هي الآن في موقف معقد ومرتبك. أولاً، لا شك أنها تفاجأت بوقوع عملية مثل «الخليل» في الضفة التي ظنت أنها هادئة تماماً ومضبوطة أمنياً، ولا سيما بعد ملايين الدولارات من أميركا والاتحاد الأوروبي لإعداد أجهزة أمنية تنسق ليل نهار مع الاحتلال. كذلك جرى خلق نموذج اقتصادي جديد شتت الفلسطينيين بين من يعيش في بحبوحة مادية لا يرغب في خسارتها، وبين من يركض خلف رغيف الخبز ولا يفكر في غير ذلك.
هذه المفاجأة دفعت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى عمق مدن الضفة باحثاً عن الخلل الأمني بداية، ولتصفية بقايا المقاومة ثانياً. لكن مقتل المستوطنين الثلاثة جاء ليزيد الأمر تعقيداً، فصار واجباً الرد سريعاً وبعنف مفرط تماشياً مع حقد الشارع الإسرائيلي وساديته، ولكنه في الوقت نفسه لا يرغب في رد يؤدي إلى انفلات الأمور من عقالها. هذا ما يفسر الاجتماعات المتتالية والطويلة لمجلس وزراء الاحتلال المصغر دون الخروج بقرارات واضحة ومحددة.
رغم التوافق الضمني بين «حماس» وإسرائيل عبر الوسيط المصري على مبدأ وسياسة التهدئة، وتطبيق ذلك في أكثر من اتفاق حتى صار مطلباً للطرفين، فإن الغضب العارم حالياً قد يضطر الطرفين إلى خوض مواجهة محسوبة بدقة. انعدام الرغبة الرسمية في توسيع المواجهة لا بد أن يعطل أو يؤجل انفجار الانتفاضة، ولكن يبقى العنصر الأخير الغائب حتى الآن من تحليلنا، ولا بد من تناوله حتى تكتمل الصورة، ألا وهو الشارع الفلسطيني، ليبرز السؤال: هل لدى الفلسطينيين الرغبة والقدرة على تفجيرها؟
من السذاجة أن يجيب أي كان عن هذا السؤال بنعم أو لا. فانتفاضات الشعوب ليست مسألة رياضية أو معادلة كيميائية. أولاً، علينا الإقرار بأن السياسات النيوليبرالية التي طبقت في الضفة خلال عهد عباس، ورئيس وزرائه السابق سلام فياض، قد شوهت المجتمع الفلسطيني وأضعفت انسجامه مع قضيته الوطنية. استكمالاً لذلك، انهارت على مدى السنوات الماضية الأطر التنظيمية والنقابية، حتى أصبح الشباب الفلسطينيون غير منتمين سياسياً أو منظمين، وعليه جاءت مؤسسات المجتمع المدني لتملأ هذا الفراغ وتستقطب طاقات الشباب لتوجيه اهتماماتهم نحو قضايا مختلفة لا علاقة لها بالعمل الوطني.

على الانتفاضة الثالثة أن تحقق قطيعة مع السنوات الماضية ورموزها
من جهة ثانية، يجب ألا يتوهم المسؤولون ويقولوا إن الواقع الاقتصادي كبّل الفلسطينيين ويمنعهم من أن ينتفضوا، فالفلسطيني يعيش حالة جدل وصراع نفسي داخلي ناتج من الحزن والغضب والشعور بالإهانة وانتقاص الكرامة، لذلك بدلاً من التفكير في توقيت انفجار الانتفاضة الثالثة، الأهم معرفة أي مضمون ستأخذ، وخاصة مع غياب قيادة وطنية فعالة وأطر تنظيمية مؤثرة؟ ومن المهم أيضاً السؤال عن برنامج الانتفاضة في ظل تفتت البرنامج الوطني الجامع. ماذا لو اعترضت الأجهزة الأمنية للسلطة على هذه الانتفاضة؟ كيف سيجري تفريغ الاستياء والغضب الشعبي من هذه السلطة؟
المؤكد هنا أن الانتفاضة الثالثة ستكون شعبية على عكس الثانية، وخاصة في ظل رغبة الأطراف السياسية الرسمية عنها، ولكنها على عكس الانتفاضة الأولى عام 1987 لن تتمتع بما سمي في ذلك الوقت «القيادة الوطنية الموحدة»، وهو ما قد يعرضها للتحول إلى فوضى.
علينا أن نخشى ذلك كثيراً ونتوقعه، لأن الأطراف غير الراغبة فيها ستحاول بكل الطرق تشويهها. يبقى الاحتمال الآخر، وهو أن يفرز العمل الميداني مع مرور الوقت قيادته الخاصة به، وهذا الاحتمال يتعزز في ظل وجود قيادات ميدانية كثيرة اليوم من «فتح» و«حماس» واليسار غير الراضين عن قياداتهم السياسية، ومع وجود شريحة من الشباب غير المنظمين، لكنهم يدركون واقعهم جيداً.
الحالة السياسية الفلسطينية الراهنة اليوم تذكرنا بالسنوات الخمس الأولى التي أعقبت النكبة، فقد كانت مدة فراغ وضياع، مع نسيج اجتماعي مفتت، وفراغ تنظيمي، وفقدان للرؤية والبرنامج وغياب للقيادة. استمر هذا الوضع حتى جاء شباب لا صلة لهم بقيادات ما قبل النكبة، واتخذوا زمام المبادرة وأعادوا صياغة هوية ووجود للفلسطيني بملامح ما بعد النكبة، لذلك فإن أي انتفاضة قادمة عليها أن تدرك أن على كاهلها مهمات لا تقل عن ذلك ضخامة. كذلك عليها أن تحقق قطيعة مع السنوات العشرين الماضية ورموزها، وهي السنوات التي تغلغلت فيها «هزيمة أوسلو» إلى تفاصيل حياتنا.

الأخبار

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …