أهل البيت (ع) في تفسير من وحي القرآن

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً *إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً}[الإنسان: 7-10].

تتجلّى في هذه الآيات قيمٌ ومُثُلٌ عظمى، تستدعينا أن نقف عندها ونغوص في معانيها، فسنتخلص العبر حيث ترتقي الأخلاق، وتسمو الروح لترتفع وتدنوَ من خالقها أكثر فأكثر.

ومن أبرز ما قد يحملنا على فهم تلك المعاني، هو فهم سبب نزول تلك الآيات.

لِمَ نزلت تلك الآيات؟ وبِمَن نزلت؟

يقول السّيد فضل الله(رضوان الله عليه) :

تحدّثت الروايات عن نزول تلك الآيات في حياة أهل البيت (عليهم السلام) فجاء في تفسير الكشّاف: عن ابن عباس “أنّ الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله(ص) في ناسٍ معه فقالوا:

يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك، فنذر عليّ وفاطمة وفضة- جارية لهما- إن برئا أن يصوموا ثلاثة أيام. فشفيا وما معهم شيء، فاستقرض عليٌّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً، واختبزت خمسة أقراص على عددهم،فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائلٌ فقال : السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة،فآثروه وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياماً. فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك.

فلما أصبحوا أَخذ عليٌّ رضي الله عنه بيد الحسن والحسين وأقبلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلمّا أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدّة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم. وقام فانطلق معهم، فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها، وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبريل وقال: خذها يا محمّد، هَنّاك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة”.

هذا وقد أورد الرواية القمّي في تفسيره بصيغة أخرى، مرفوعة إلى أبيه عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: كان عند فاطمة(ع) شعير فجعلوه عصيدة (شعير يُلتّ بالسمن ويُطبخ)، فلما أنضجوها ووضعوها بين أيديهم جاء مسكين فقال: مسكين رحمكم الله، فقام علي(ع) فأعطاه ثلثاً، فلم يلبث أن جاء يتيم فقال: يتيم رحمكم الله فأعطاه(ع) الثلث، ثم جاء أسير فقال: أسيرٌ رحمكم الله فأعطاه(ع) الثلث، وما ذاقوها، فأنزل الله سبحانه الآيات فيهم، وهي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك لله عزّ وجلّ.

ثمّ يفسِّر السّيد(رضوان الله عليه) الآيات المباركة:

{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} ذلك الارتباط الشديد بالله تعالى الذي التزم به أهل البيت(ع) من خلال نذرهم صيام ثلاثة أيّام، وهم مع صعوبة تحقيق ذلك الوعد الذي قطعوه لله عزّ وجلّ، إذ إنّهم بقوا ثلاثة أيام صائمين من دون أن يقتاتوا لقمة طعام واحدة، إلاّ أنّهم لم يهِنوا ولم يتراجعوا، بل صمدوا والتزموا به.

وجاء في تفسير سماحة السيد فضل الله “أنّ النّذر هو ما يلتزمه الإنسان على نفسه من مالٍ أو عملٍ بصيغةٍ معيّنة، وقد يتوسّع البعض في معناه ليشمل كلّ التزامات الإنسان الإيمانية”.

ونذر أهل البيت هنا، عبّر عن التزام مرتبط بالله في ما يستتبعه من الوفاء الدّال على صدقهم في التزاماتهم فيما يتحمّلون من تبعاته ويحملون من أعبائه.

إنّ النموذج الالتزامي الذي قدّمه أهل البيت (عليهم السلام) يمثّل بُعداً أخلاقياً مثالياً تجلّى في طريقة الالتزام، ووفاء النذر، فإنّ مصداقية الانسان وثبات عهوده تجعل منه إنساناً منفتحاً على الناس وأقرب إلى الله تعالى.

{وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً}

لقد عاش أهل البيت(ع) هاجس الخوف من اليوم الآخر وما يحمله من عذاب وويلات لمن قصّر في طاعة الله وابتعد عن الصواب، لذا كانوا يتحرّكون في كلِّ اتجاهات الخير ويجاهدون ابتغاءً لمرضاة الخالق، ويبتعدون كلّ البعد عن غضبه وسخطه، فأولئك الأبرار وضعوا اليوم الآخر نصب أعينهم وعملوا ليلقوا فيه خيراً لا شرّاً، كَمَا أكّد سماحته بتفسيره لهذه الآية أنّه قد سُمّي العذاب شرّاً، لأنّه لا خير فيه للناس الذين ينالهم العقاب، ولذلك فإنّهم- أهل البيت(ع)- يعملون على الابتعاد عن دائرة التقصير في طاعة الله، لشعورهم بضخامة المسؤولية، وثقل التبعة، وعظمة النتائج السلبية في الدار الآخرة.

إنّ صيام أهل البيت (ع) ثلاثة أيام تباعاً وبقاءهم بلا طعام، يدلّ على إيثار وكرمٍ وبذلٍ عظيم.

وهنا يأتي السؤال، كيف أطعم أهل البيت ذلك الطعام وكيف قدّموه؟

{ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً }

شاهد أيضاً

في رثاء الحاج طلال شرارة (أبو علي)

قم أيها الحبيب! رد هذا التراب عن وجهك وحدثنا فنحن لم نودعك كما الزوجة والأبناء …