العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله
٢٨/١٠/٢٠١٣
تتلخّص أسباب نفور الشباب من الدّين، في العديد من الأمور:
أوّلاً:الصّورة المشوّهة الّتي تمثّلها بعض النّماذج البشريّة المختلفة، أو غير المخلصة للمسلمين أو للمتديّنين بشكلٍ عام، أو الّذين يمثّلون الدّين بصورة رسميّة، فقد يكون لهذه الصّورة الّتي يلمحها الشّباب، بعض الأثر في داخل نفوسهم، عندما يجدون الابتعاد عن الممارسة العمليّة لقضايا الحياة الملحّة، ويلاحظون النّظرة الفرديّة الضيّقة الّتي تطبع سلوكهم وأوضاعهم، أو عندما يصطدمون بواقع الاتجار بالدّين، وجعله وسيلة من وسائل الإثراء غير المشروع، أو يُفاجأون بالفهم الضيّق للمفاهيم الدّينيّة عن الإنسان والكون والحياة، الأمر الّذي يشوّه صورة الدّين في نظره، عندما يجده بعيداً عن تطلّعاته.
ثانياً:الواقع التّاريخيّ لبعض المراحل التاريخيّة للحكم الدّيني الّذي مارسه بعض الحكّام المسلمين وغير المسلمين، الّذي انطلق من مفاهيم التخلّف، ما أدّى إلى أن يعيش النّاس في ظلّ الحكم الديني البؤس والشّقاء والانحطاط والظّلم والتسلّط دون حقّ، وفقدان الحريّات في جميع مجالاتها، في الوقت الّذي تعيش الطّبقات الحاكمة الّتي تمثّل السّلطة الدينيّة الرّسميّة، كلّ مظاهر البذخ والتّرف، وكلّ ما تتطلّبه شهواتها وغرائزها وميولها، الأمر الّذي خلق انطباعاً لدى بعض الّذين ينظرون إلى الأمور نظرة سطحيّة، بأنّ الدّين لا يمثّل الحلّ لمشاكل الإنسان، وإنما يمثّل بدلاً من ذلك، الوسيلة الّتي يستغلّ فيها الحاكمون والنّافذون شعوبهم، ويسيطر باسمه القويّ على الضّعيف، دون أن يلتفتوا إلى الكلمة المعروفة: “الإسلام شيء والمسلمون شيء آخر”.
ثالثاً:الأفكار الّتي شاعت في أوروبّا في بدايات عصر النّهضة وفيما بعدها، المستمدّة من واقع الممارسات الدينيّة لبعض المؤسّسات الدينيّة هناك، كفكرة “العلم يصادم الدّين”، أو “الدّين أفيون الشعوب”، وغير ذلك من الأفكار الّتي شارك في نشرها وتركيزها في أفكار الشّباب، الأساتذة والمفكّرون الّذين قادوا مسيرة الثّقافة في مدارسنا الحديثة، وقادة الأحزاب الّذين أرادوا أن يبعدوا الشّباب عن الدّين، بإعطاء هذه الصّورة المشبوهة الّتي تمثّله، بعيداً عن تطلّعاتهم للتقدّم والانطلاق في مجال العلم والمدنيّة، والمبشّرون الّذين عملوا بأساليبهم المتنوّعة على إثارة الشّبهات والشّكوك في العقيدة والتّشريع في التّاريخ.
كلّ هذا، دون أن تقابل هذه النَّشاطات بنشاطات دينيَّة أخرى توضح خطأ هذه الأفكار، بالمستوى الّذي تمارسه هذه القوى، بالنّظر إلى أنّها كانت مع بدايات عهود الاستعمار الّذي انطلق من قاعدة إبعاد الأمّة عن جذورها وقيمها، لئلا تستمدّ منها القوّة على مقاومة القوى الغاشمة الّتي تستعمرها وتستعبدها، انطلاقاً من عقيدتها وتاريخها.
فكان من الطّبيعيّ أن يسيطر على مؤسّسات الثّقافة والإعلام وغيرها، من أجل إفساح المجال لأفكارٍ بعيدة عن أفكار الأمّة، كما ألمنحنا إليه، وإغراق الجيل بالكثير من العقائد والمذاهب الفكريّة، لا ليعتنق واحداً منها، بل ليعيش الفوضى في الفكر والعقيدة، فيغرق في دوّامة المناقشات اللّفظيّة والهامشيّة الّتي تبعده عن آماله وآلامه، وبالتّالي، تبعده عن التّفكير والانتباه لما يخطّط له ويراد به.
وقد يكون من الرّاجح للشّباب من أجل وضوح هذه الفكرة، أن يقرأوا كتاب “التبشير والاستعمار في البلاد العربيّة”.
رابعاً:التيّار المادّي للحضارة الغربيّة الّذي حاول أن يربط الإنسان بحياته المادّيّة، ويفلسف له شهواته وغرائزه، ويعمل على الإيحاء له بقداستها، واعتبار ممارستها بكلّ حريّة ممارسة لإرادة الوجود الّتي تنطلق من شعور الإنسان بحريّته من الدّاخل، دون أن يكون هناك سلطة أخرى خارج ذاته تفرض عليه إرادته، الأمر الّذي جعل الإنسان يشعر أمام عوامل الإغراء الّتي صنعتها هذه الحضارة، بتفاهة الضّوابط الأخلاقيّة والقانونيّة الّتي تضبط له حركاته وتصرّفاته، وربما يتعاظم هذا الشّعور، إلى شعوره بقسوة هذه القيود، إلى الحدّ الّذي يعتبرها عدواناً على حريته.
وبهذا أصبحت كلمة الحريّة لديه تشمل كلّ ما يفكّر فيه أو يحلو له، حتّى الحرية الجنسيّة، أو حريّة التفلّت من القوانين والعادات والأعراف والتّقاليد.
وأصبح مفهوم الرّفض من المفاهيم المطّاطة الّتي حملها الجيل دون وعيٍ لمضمونها، فالمهمّ أن نعيش الرّفض، دون أن يكون لمضمون الرّفض أيّة أهميّة في الحساب.
ومن الطّبيعيّ أن يشعر الجيل الّذي يعيش هذا الواقع، بالعداء للدّين الّذي يحاول أن يركّز الضّوابط الأخلاقيّة في داخل الإنسان، ليمارس إرادته واستقلاله من خلالها، ولينطلق في الحياة من قاعدة اعتبار الرّوح إلى جانب المادّة، أساساً سليماً للحياة الطبيعيّة المستقرّة.
المصدر: كتاب “مفاهيم إسلاميّة عامّة”.