قد يقول قائل أنّ انتخابات الجنوب البلدية أعادت “الهيبة” إلى الأحزاب، بعدما أحدثت الجولتان الأولى والثانية “ثقوباً” من المستوى العالي على خطّها، جعلتها تبدو بموقع “الخاسر” على المستوى السياسي، وإن ربحت من الناحية العددية.في قرى الجنوب والنبطية، خرج ثنائي “حزب الله” و”حركة أمل” رابحاً بالإجمال. لوائح “التنمية والوفاء” لم تخالف التوقّعات، ففازت بالغالبية الساحقة من القرى والبلدات، مع تسجيل “خروقات” أكثر من “معبّرة” في العديد من البلدات، ولو كانت “محدودة”.
وإذا كان الكثير من “الهرج والمرج” أحاط بمرحلة “تشكيل اللوائح”، حيث “تحفّظ” الكثيرون حتى من قلب البيئة الحاضنة للحزب والحركة على تركيباتها، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ النتائج التي تحقّقت تستحقّ وقفة تأمّل وأكثر…
تجديدٌ للتفويض…
لا يشكّ أحد أنّ “حزب الله” و”حركة أمل” خرجا رابحَين على الصعيد السياسي من الانتخابات البلدية، بحيث أثبتا للقاصي والداني أنّهما ما زالا يمثّلان ما يمثّلانه على مستوى الجنوب، وهو ما أكّدته الانتخابات البلدية والاختيارية، المفترض أنّها ليست المعيار الأمثل ولا الأنسب لإطلاق الأحكام السياسية، باعتبار أنّ الحسابات التي تتحكّم بها ليست سياسية في المطلق، وهي بذلك تختلف كثيراً عن حسابات الانتخابات النيابية على سبيل المثال، نظراً لتداخل العوامل المناطقية والعائلية والإنمائية مع الأبعاد السياسية، وتفوّق تأثيرها عليها في الكثير من الأحيان.
وإذا كان مجرّد حصول معارك انتخابية في قرى الجنوب شكّل نقطة لصالح الثنائي الشيعي، باعتبار أنّه ضرب مقولة أنّ لا تنافس حقيقياً في ظلّ وجود السلاح، بدليل أنّ المعارك حصلت بكلّ روح رياضية ومن دون ضربة كفّ، رغم الخروقات التي سُجّلت في بعض القرى، فإنّ من المفارقات اللافتة التي أفرزتها هذه الانتخابات نسب التصويت المرتفعة نسبياً التي سُجّلت في مختلف القرى الجنوبية، رغم أنّ المعارك في الكثير منها كانت شبه محسومة، وهي نسبٌ قاربت إلى حدّ كبير تلك التي سُجّلت قبل ستّ سنوات، وتخطّت في بعض الأماكن الأرقام القياسية، كما حصل على سبيل المثال في بلدية حومين الفوقا، حيث فاقت النسبة الـ74 بالمئة.
وفي وقتٍ اعتبر كثيرون أنّ هذه النسب شكّلت رداً مباشراً على النسب الخجولة التي حصدتها انتخابات بيروت، والتي قرأها المراقبون بأنّها رسالة سلبية في وجه “تيار المستقبل”، فإنّ الأكيد أنّ الدعوات التي وجّهها الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله ورئيس المجلس النيابي نبيه بري قبيل انطلاق صافرة الانتخابات لعبت دوراً أساسياً على هذا الصعيد. ولعلّ خطاب السيد نصرالله الأخير لعب على وجه التحديد دوراً جوهرياً في “تسييس” المعركة بالشكل الذي حصل، خصوصاً أنّه ضرب على “الوتر الحساس” لأبناء الجنوب وبيئة المقاومة بشكلٍ عام، وذلك من خلال إصراره على وجوب رفض السماح للخصوم والأعداء بـ”الشماتة”، وإن رأى كثيرون حتى من بيئة الحزب الحاضنة أنّه لم يكن مناسباً، خصوصاً أنّه أتى من خارج مناسبة الخطاب، وأنّه كان من الافضل لو أنّ السيد نصرالله “نأى بنفسه” عن مثل هذا الاستحقاق ودهاليزه، وترك المهمّة على عاتق المسؤولين عن ملف البلديات في الحزب.
رسائل “اعتراضية” معبّرة!
ولكن، وفي مقابل الرسائل السياسية التي حملتها انتخابات الجنوب البلدية، فإنّ الأكيد أنّ الفوز الذي حققه كلّ من “حزب الله” و”أمل” لم يكن مطلقاً، إذ إنّه لم يستطع أن يخفي “الصوت الاعتراضي” الآخذ في الارتفاع، والذي “فضحه” التشطيب الذي بدا “سيّد الموقف” في الكثير من البلدات والقرى، والذي مهّد الطريق لبعض “الخروقات” التي تحقّقت. وإذا كانت عمليات “التشطيب” هذه أعادت في الكثير من الأماكن الحديث عن “تبايناتٍ تحت الطاولة” بين “الحزب” و”الحركة”، فإنّها شملت في بعض الأحيان مرشحين من “الصف الحزبي الواحد”، ما دلّ على وجود “امتعاض” من طريقة إدارة المعركة الانتخابية وتشكيل اللوائح.
وعلى الرغم من أنّ الخروقات التي تحققت لا تُسجَّل من الناحية السياسية، على إعتبار أنها داخل البيت السياسي الواحد ضمن المنافسة التي يمكن القول أنها عائلية، إلا أنها حملت بين سطورها دلالات إعتراض على النهج القائم على صعيد المجالس البلدية منذ سنوات عديدة، فالجميع يعلم أنها لم تكن على قدر الآمال المعلقة عليها، وهي لم تستطع مواجهة الكثير من التحدّيات الخطيرة، وعلى رأسها أزمة النفايات، ولذلك فإنّ الصدمة الكبرى بالنسبة إلى الجنوبيين كانت بتجديد العهد لمعظمها على قاعدة “إبقاء القديم” بكلّ بساطة، بما فيها حتى من أسماء “مشبوهة” أثارت سخط الكثير من الأهالي، خصوصاً عندما تمّ تبريرها بمنطق “العائلات” و”المحسوبيات”، بعيداً عن “الكفاءات”.
عموماً، تمكّن المستقلون من تسجيل أرقامٍ لافتة في العديد من القرى، الأمر الذي إن دلّ على شيء، فعلى أنّ الجنوبيين، ولو انضووا تحت راية “أمل” و”حزب الله” سياسياً، غير راضين عن طريقة تأليف اللوائح، ولا عن المجالس البلدية التي تشكلت في السنوات السابقة، وبالتالي فهم يبحثون عن “تغييرٍ” خصوصًا في نمط عمل المجالس البلدية المتهمة بالتقصير بل بالفساد في الكثير من الأحيان، علمًا أنّ النتائج كانت لتكون أكبر وقعاً لو لم يتمّ “تسييس” المعركة بالشكل الذي حصلت فيه، والذي دفع كثيرين للتصويت عن قناعات سياسية لا إنمائية ولا عائلية، خصوصاً بعد خطاب السيد نصرالله، مع تسجيل تراجع الخطاب “التخويني” للمنافسين، وهي نقطةٌ تُحسَب للثنائي الشيعي، وإن لم يخلُ الأمر من بعض “الاستثناءات” التي رُصِدت هنا وهناك.
كيف يبدأ التغيير؟
من حقّ “حزب الله” و”حركة أمل” أن يحتفلا بالفوز الذي حقّقاه على المستوى السياسي، ومن حقّهما أن يقولا أنّ الجنوب جدّد التفويض الممنوح لهما، خصوصًا في ظلّ الاستحقاقات والتحديات التي يواجهانها، وفي ظلّ كلّ ما يُحكى عن تراجع تمثيلهما وما سواه.
ولكن من حقّ الجنوبيين عليهما قبل هذا وذاك أن يقرآ صوتهم “الاعتراضي” بشكلٍ أو بآخر، وأن يدركا أنّ “نقمتهم” تعود أولاً وأخيراً إلى واقعٍ لا يمتّ للسياسة بصلة ولا بدّ من تغييره، والتغيير يبدأ أولاً بإصلاح أساس تركيب اللوائح لتطغى الكفاءات على الحصص الحزبية، علمًا أنّ السيد نصرالله نفسه كان أول من انتقد بعض “الحسابات” التي تتحكّم بالانتخابات البلدية، ما يستوجب إعادة النظر بها في المستقبل القريب بكلّ عقلانية وتجرّد….
المصدر: النشرة